تحصين الجبهات الداخلية.. من الصراعات والاختراقات

TT

حين تسفر المخاطر: لا يكون هناك معاذير - من أي نوع - لإغماض العين دونها، فتجاهل المخاطر - عندئذ - يشبه خيانة قائد عسكري كلف بحماية ثغر أو جبهة، فلما رأى العدو يزحف تجاهل الزحف فنام فوقعت الكارثة.. ثم حين تسفر المخاطر، تُقطع البرامج المعتادة لأجل إعادة ترتيب الأولويات بهدف أن تكون «مجابهة المخاطر» هي الأولوية المطلقة المتعين مباشرتها: بلا تردد، ولا بطء.

أجل. فحماية الجبهة الداخلية من الاختراق والتفتيت هي المسؤولية الأولى لكل حاكم عربي.

لقد انصب مقال الأسبوع الماضي على «مخطط تفكيك الأوطان العربية وتمزيقها جغرافيا: من السودان إلى الصومال، إلى العراق، إلى اليمن».. وتمثلت صورة هذا التمزيق في انفصالات جغرافية وشيكة الحدوث «كما في السودان»، أو مهيأة لذلك بعد حين في هذا البلد أو ذاك.

والتنبيه واجب إلى أن التفتيت صور وألوان.. ولنستحضر من هذه الصور ما يأتي:

أولا: صورة «التمزيق الفكري». فمع التثمين العالي جدا لـ«الجغرافيا» فإن قوام الوطن هو «الناس»، وقوام الناس هو: المبادئ والقيم والمفاهيم التي تؤلف بينهم. فالمجموعة أو الجماعة البشرية داخل وطن ما: لا يُشد بعضها إلى بعض بحبال أو أسلاك، ولا يُلصق بعضها ببعض بمادة الصمغ. وإنما يأتلف الناس ويتحدون على منظومة مشتركة من المبادئ والمفاهيم والقيم.. قد تأخذ هذه القيم والمبادئ المشتركة عنوان «التربية الوطنية»، أو «الميثاق»، أو «الدستور». وأيا كان العنوان فإن المضمون المعتبر هو: المبادئ أو المسلمات الوطنية التي ينعقد عليها الإجماع أو الاتفاق الوطني.. وبديهي أن لكل قوم - في وطن ما - مسلماتهم التي تجمعهم: لا يشذ عن ذلك إلا وطن: أهله جميعا مجانين أو هم قوم فُرط وفوضى لا يلتقون على شيء!!.. وإنا لنعجب كثيرا حين يُذكر - مثلا - تعبير «الثوابت» فيقفز إلى أذهان الناس - مادحين أو قادحين - : أن هذه الثوابت خاصية من خصائص العرب والمسلمين فحسب!!.. والحقيقة: أن لكل أمة ثوابتها. فالأميركيون «الذين يتوهم البعض بأنهم أمة في حالة تغير دائم في كل شيء»!.. هؤلاء الأميركان لهم ثوابتهم ومسلماتهم الراسخة ومنها: الدستور.. وحرية التعبير.. والفيدرالية.. وفصل السلطات.. والاقتصاد الحر: ببرهان: أننا لم نشهد حزبا من الأحزاب الكبرى هناك قد طرح - على مدى 3 قرون تقريبا - برنامجا لتغيير هذه الثوابت إذا فاز في الانتخابات التشريعية أو الرئاسية، ولذا لحظ خبراء دستوريون أميركان: أن الأسس الفكرية للنظام الأميركي تميل إلى «المحافظة» مستشهدين بوثيقة الاستقلال، وبالدستور نفسه الذي عدل ولكنه «لم يبدل».

وعلى عكس ذلك نجد في الأوطان العربية من يريدها بلا ثوابت ولا مسلمات، وهي إرادات أصبحت ذريعة أو مناخا لما يمكن تسميته بـ«الصراع الفكري» الذي يفتت «الوحدة الوطنية»: هنا أو هناك أو هنالك.. ولا يجوز أن تفسر هذه الفقرة الآنفة بأنها نزوع إلى تضييق «مساحة حرية التفكير والتعبير»، ذلك أننا نوقن بأن الأوطان لا تتقدم إلى على صدح الأفكار الجديدة، والعقول المبدعة الخلاقة. بيد أنه مهما اتسع نطاق الحرية - في التفكير والتعبير - فإنه لا يعقل - ولا يقبل - أن يكون أداة لفصم الوحدة الوطنية المؤسسة على مبادئ وقيم ومفاهيم مشتركة. فشيخ الليبرالية نفسه (ديكارت) أعلن أن منهجه يحترم القوانين والتقاليد والعقائد التي يتبناها نظام بلاده، ويعتمدها قومه.. أي إن ديكارت كان يحترم ثوابت مجتمعه ومسلماته وهو يدعو إلى ليبرالية حقة في التفكير العلمي والفلسفي.

ثانيا: المهدد الثاني لـ«الوحدة الوطنية» في كل قطر هو «الاختراقات الأمنية»، وهي اختراقات لا تقل خطورة ولا فداحة عن خطورة الحرب السافرة والاجتياح العسكري المباشر إلا أن خطورة الاختراق أنعم وأهدأ!!.. منذ قليل كشفت مصر عن شبكتين للتجسس اخترقتا عصب أمنها الوطني، يقف وراء الشبكتين جهاز الموساد الإسرائيلي.. وفي لبنان تبين أن إسرائيل مخترقة كل شيء تقريبا من خلال توغل الموساد في «مخ» الاتصالات اللبنانية.. وفي دبي قام الموساد باغتيال محمود المبحوح (كما هو معروف). وهذا اختراق أمني بلا ريب: سارعت دبي إلى كشفه وفضحه.. ونجمل القول فنقول:

أ - إن الاختراقات الأمنية ليست مقصودة لذاتها، بل هي وسيلة لتفجير الأوطان العربية في وقت ما: بهذا المفجر أو ذاك (الموساد جهاز فتنة).

ب - ينبغي افتراض أن في كل وطن عربي اختراقات أمنية إسرائيلية.. والفرق أن هناك شبكات قد كشفت، وشبكات أخرى لم تكشف!.

ج - إن إسرائيل كيان معجون في الغدر. فها هي تتجسس على مصر وتنزل ضررا جسيما بأمنها الوطني على الرغم من أنها أول دولة عربية تقيم سلاما مع إسرائيل!

د - يتوجب التحرر الكامل - والناجز - من وهم أن إسرائيل تمثل خطرا على فلسطين وأهلها فحسب. فالأدلة والوقائع قد تضافرت على أن إسرائيل تصنف كل وطن عربي على أنه «عدو» يجب اختراقه والتجسس عليه.