ليت مصر تعود للوراء

TT

في تعليقه على إدارة أحمد عز، أمانة تنظيم الحزب الوطني الديمقراطي، اتهم الدكتور مأمون فندي سعادة سكرتير التنظيم بأنه «يعيد عقارب الساعة 50 سنة للوراء»، معتبرا ذلك تراجعا للحالة المصرية.

تحليلات الصديق «عالم السياسة» الدكتور فندي، أميركية حسب جنسيته القانونية (مصري المولد إلا أن دراسته جعلته يفكر بطريقة علمية أمريكانية بدل الفهلوة المصرية)، غذاء للعقل. ربطه بين الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون، وجوليان أسانج مؤسس موقع التسريبات «ويكيليكس»، والمهندس أحمد عز، منطقي، لكنني أخالفه تقديره لنتائج إرجاع عقارب ساعة المحروسة للوراء.

ولو قدر لي اختراع آلة زمن مثل رواية هربرت جورج ويلز (1866 - 1946) لأضفت إلى مؤشر الدكتور فندي، 10 سنوات، أو حتى ثماني «فوق البيعة» في محرك الآلة لأعود بمصر 60 سنة أي عام 1950 أو 1951 (لو تأخرت قراءة البعض لهذا المقال أسبوعا إلى عام 2011).

وليتابع القارئ العزيز أسباب رفضي لتشاؤم الدكتور فندي، مقدرا توزيع المصريين الشربات لو عادت عقارب الساعة المصرية بهم 60 عاما إلى الوراء.

ماذا كان شكل المحروسة، ووضعها الاقتصادي، وحال الأمة المصرية، وأخلاق وذوق بناتها وأبنائها خمس أو ست سنوات من نهاية الحرب العالمية الثانية؟

كانت بريطانيا العظمى مديونة لمصر (البنوك المصرية كانت تقرض مستثمري ومصانع البلدان الأوروبية لتشتري «الذهب الأبيض» أي القطن المصري، الكتان، والأرز وغيرها من المنتجات المصرية) بما يساوي 50 مليون جنيه قبل الفوائد، وكان الجنيه المصري يساوي جنيها وربع جنيه استرليني.

الاقتصاد المصري تطور في العشرينات، فترة «نهضة مصر» بفضل استثمارات بنك مصر، مولود الاقتصادي العظيم طلعت حرب باشا ( 1867 - 1941) لدعم الصناعات المصرية، ليصبح من أكثر بنوك العالم استقرارا ماليا (بغطاء نقدي 40 طن ذهب عام 1952.... أين ذهبت يا تُرى؟)

بنك مصر جعل السينما المصرية الرابعة لصناعة الفيلم في العالم (بعد الهندية، والسوفياتية، وهوليوود)، ونشرت الثقافة والإيتيكيت والفن المصري في البلدان الناطقة بالعربية. استوديوهات مصر (منطقة الأهرام) عرفت بـ«هوليوود الشرق».

أي فنان أو فنانة، من موسيقار إلى مؤلف إلى شاعر، إلى مطرب أو مطربة، ممثل أو ممثلة، أو راقصة، من أول جبال القوقاز حتى جبال أطلس، كان حلمهم الوصول إلى هوليوود الشرق وعاصمة الفنون والإبداع والجمال في عموم أفريقيا والمنطقة من المحيط إلى الخليج.

وكانت شهادة الموهبة أو القدرة الفنية، أو الشاعرية أو الروائية، لا تصدر إلا بالظهور في فيلم مصري حتى ولو «كومبارس» بلا كلمات (كالفنانة الكبيرة المطربة صباح عندما ظهرت كومبارس في فيلم عنبر مع ليلي مراد وأنور وجدي قبل 60 عاما)، أو على خشبة المسرح المصري (كبديع خيري وإلياس مؤدب)، أو النشر في جورنال مصري أو مجلة «الهلال».

اقتصاد قوته وفرة الوظائف - بدليل أن مصطفى النحاس باشا (1879 - 1965) دعا العمال المصريين لترك وظائفهم في القواعد العسكرية البريطانية عام 1951 احتجاجا على إسقاط لندن كلمة «السودان» من لقب فاروق الأول «ملك مصر والسودان»، وأعاد توظيف قرابة 80 ألف مصري في أقل من شهر.

كان المهاجرون من أوروبا والشرق يتدفقون على مصر. وأذكر أن سائس الجراج «تشيكي»، وجرسون القهوة التجارية - حيث تناول والدي قهوة الصباح قبل توجهه لمكتبه (مديرا لبوستة الإسكندرية) – «يوناني»، وجدي ناظر المدرسة (أكثر من نصف تلاميذه غير مصريين)، كان ترزيه المفضل «إيطالياً»، ويكوي الطربوش عند خواجة «نمساوي»؛ وكان عربجي الحنطور الذي يوصل أمي للخياطة «الفرنسية»، أو المزين الإيطالي، «مالطيًا».

مكتب إعانة البطالة الذي أنشأه حافظ عفيفي باشا شبه خاو، ويعامل طالب الإعانة باحترام من موظف استقبال (حامل ابتدائية يتقن الفرنسية) بقميص منشي وكرافت غامق وبذلة مستوحاة من أناقة صورة الملك بالزي الرسمي والطربوش المعلق على جدار المكتب، شأنه شأن أي مكتب يتعامل مع المواطنين.

فعقوبة الرشوة - للطرفين - كانت ستة أشهر (كحكاية عسكري المرور في قصر النيل الذي حرر للبكباشي جمال عبد الناصر مخالفة تعطل ضوء الفرامل في سيارته ليلة 22 يوليو 1952، ولم يخطر للضابط رشوته).

وكانت مسألة رفع المواطن قضية على الوزير، أو رئيس الوزارة أو الخاصة الملكية، أمرا عاديا، لا يستحق أن يكون خبرا صحافيا.

ولم نسمع عن شاب «عاكس» مدموزيل أو هانم بمايوه على البلاج، أو أفندي لا يقف احتراما لدخول سيدة الغرفة.

وكانت هناك فصول مسائية لمحو الأمية بين عمال المصانع، وعمال التراحيل، والمزارعين باليومية. المعلمون كانوا متقاعدين (60 سنة في مصر) بأجور إضافية لمعاشهم، وحوافز للدارسين تدفعها وزارة المعارف العمومية. «ومعارف» مشتقة من المعرفة؛ لأن مفهوم التعليم كان المعرفة وتوسيع الإدراك، وعمومية تعني ترامي حدود المعرفة، وأيضا تعميمها بين الجميع دون تفريق؛ مقارنة بمفهوم «التربية» أي تطويع الإنسان منذ الصغر. وبالمصري «أنا حاربيك» تعني معاقبة الشخص لتغيير سلوكه: وشتان بين مفهوم السعي للمعرفة، ومفهوم تطويع أو «قولبة» المواطن منذ الصغر «بتربيته»). وهي الفصول التي ألغاها الصاغ كمال الدين حسين (1921 - 1999) فور تعيينه وزيرا «للتربية والتعليم»، في مقعد وزير المعارف الدكتور طه حسين (1889 - 1973) الذي عمم مجانية التعليم قبلها بـ 10 سنوات.

قبل 60 سنة كانت «السكوندو» في القطار أنظف وأشيك من «بريمو» 2010، بتذكرة 12 قرشا من الإسكندرية للقاهرة، وفراش ببذلة وكرافت وطربوش يقدم لك عصير ليمون على صينية فضية.

وإذا شاهد قارئ فيلما مصريا (أبيض وأسود) عمره 60 عاما، أرجو أن يلاحظ المشاهد خارج الاستوديو: الشوارع، والأماكن العامة ليرى نظافتها، وسلوك المارة العاديين من أفندية وهوانم, وسيلاحظ أيضا غياب النقاب والجلباب والحجاب وباعة الكباب وبالطبع الإرهاب.

والذكريات (الموجعة الاسترجاع) تذكرني بنكتة سمعتها عام 1999 وهي تشكيل مجلس الشعب لثلاث لجان تزور لندن، وباريس، وبرلين، لدراسة الحالة الاجتماعية، والمواصلات، والمرافق، والصحة والتعليم، والأخلاق، للوقوع على أسباب «سبق أوروبا لمصر بـ 50 عاما».

وعادت اللجان كلها إلى المجلس بعد أيام، وإذا بكل لجنة، منفصلة، تقدم تقريرا مختصرا، ناصحة بتوفير المصاريف لوقوع خطأ أساسي في المشروع: «أنتم فاهمين غلط!» فمصر تسبق أوروبا بنصف قرن؛ فاللجنة درست كل أمور الحياة كما طلب مجلسكم الموقر، لتكتشف أن الحياة في مصر كانت بمستوى هذه البلدان قبل 50 سنة.

ويا ريت يا دكتور فندي تعود الحياة في مصر كما كانت قبل 60 سنة.