المسكوت عنه في الأزمة السياسية الكويتية

TT

بعد ثلاثة أيام من اليوم - إذا لم تحدث مفاجآت غير متوقعة - ربما يدخل العمل السياسي في الكويت مرحلة جديدة، ربما هي المرحلة الفاصلة بين مخلفات وأعباء الاحتلال العراقي للكويت وما جره من سلبيات نفسية وسياسية على المجتمع الكويتي سياسيا، وبين الدخول في مرحلة المواطنة المرتجاة. القضايا الحاكمة الرئيسية في الكويت ليست ما نسمعه ونراه من ضجة سياسية، تفتر لتلتهب ثم تخبو لتعود، ذلك هو الدخان. أما النار فهي فشل تركيب آلية مرنة تحدد على وجه الدقة علاقة الفصل والربط بين العمل التنفيذي والعمل التشريعي، تكون قاطعة وواضحة. القضية الرئيسية هي تكييف بعض نصوص الدستور، وكيف تفسره الأطراف المختلفة، وبناء على تفسيرها ذاك تتصرف سياسيا.

الدستور الكويتي سوف يدخل عامه الخمسين قريبا، كما أنه سار العمل في الديمقراطيات الحديثة على اجراء تغيير في الدستور اذا اقتضت المصلحة الوطنية ذلك؛ ففي فرنسا، وهي مصدر التشريعات الدستورية في الكويت والدول العربية، تم تعديل الدستور عدة مرات لعل من بينها او آخرها مدة حكم رئيس الجمهورية، وقد تنبه الآباء المؤسسون إلى أن الدستور وثيقة إنسانية ليست صالحة لكل زمان ومكان بالضرورة. فقد أشار أولئك الرجال إلى أن مراجعته ممكنة على ضوء التجربة، واشترطوا فقط، أن يتم ذلك بعد خمس سنوات من بدء تطبيقه، وها هي الخمسون عاما تتفوق على الخمسة بعشر مرات، تغير فيها المجتمع تغيرا جذريا، وتغيرت الظروف كذلك، وكل الأصوات المنادية بإعادة النظر فيه، كما نص في صلبه، قد غيبت بناء على آراء، وربما مزايدات، تقول في أحسنها إن المطالبة بالنظر في الدستور حق يراد به باطل، وأخرى تتوجس خيفة، من خلال قراءة في النيات، وأن مراجعته تعني التراجع عن مكتسباته. الحقيقة الواضحة أن البعض لا يريد أن يعترف بمرور الزمن، وأن الأزمان تأتي بمتغيراتها. الزمن الذي كان فيه حجم الناخبين الكويتيين في أول انتخابات لعضوية خمسين نائبا في المجلس عام 1962 يشكلون من حجم الناخبين في آخر انتخابات عام 2009 فقط 4.5% في المائة وأيضا لخمسين نائبا!!

لقد تغير حجم الكتلة السكانية أضعافا مضاعفة. فوق ذاك فإن 30% من الأصوات في الانتخابات الأخيرة لم يمثلها أحد، كونها ذهبت إلى رقم 11 إلى 15 من لائحة الانتخاب، أي سقطت في هوة الأغلبية البسيطة التي يشترطها قانون الانتخاب الحالي للفوز بالمقعد الانتخابي، إن أبسط تغيير مطلوب كي يكون التمثيل عادلا، أن تجرى الانتخابات على شرط أن لا يصل إلى المجلس إلا من حاز أكثر من نصف الأصوات، أي الانتخاب على مرحلتين، لتأكيد أن النائب يعتمد على قاعدة أوسع من أصوات المواطنين، بدلا من اعتماده على قاعدة ضيقة، قد تملي عليه مواقفه إرضاء لها، وهناك العديد من الاقتراحات التي ترنو إلى الإصلاح نتيجة التجربة الطويلة. تلك بعض التوقعات التي رآها الآباء المؤسسون محتملة الظهور بعد التطبيق، إلا أن الدستور - لدى البعض - أخذ موقع القداسة - ولا قداسة لنص إنساني -.

الحقيقة الماثلة أن هناك عوارا - على مر السنين - في فهم النصوص، وعوارا آخر في تطبيقها، وعوارا ثالثا في الاستفادة من نتائج التجربة تحسينا وترقية، قاعدة فصل السلطات لم تتحقق، بل اختلطت حتى وفرت قاعدة للابتزاز السياسي، مما أفقد الكويت كبلد - قدرتها التنافسية، وأفقدها وهو الأهم، خيرة كوادرها التنفيذية، نتيجة الصراع السياسي الشخصاني جراء الشحناء السياسية واستنزف الجسم الإداري والسياسي الكويتي حتى فقد دماءه النشطة.

المرحلة السابقة بكل أعبائها ومكوناتها كانت لها صفة واحدة تجمعها وملخصها: كلمة هي «التسيب» وعنوانها أن النائب، الذي يتوق حتما للعودة إلى مقعده في المجلس النيابي - بسبب الامتيازات المادية أو المعنوية أو كلتيهما - يصبح مقادا بأهواء الناخب أو القاعدة الضيقة من الناخبين، ثم يصبح الوزير مقادا من النائب، خوفا من المساءلة الحقة أو الباطلة، فأصبح تقديم الخدمة الشخصية - في الغالب - رغم عدم مشروعيته هو السائد، بل أصبح جزء من الهيئة التنفيذية يخشى حتى وسائل الإعلام عندما تبدأ حملتها من التشهير، فيسارع في كسب ودها بالخضوع لمطالبات قد تكون بعضها شرعية، وأغلبها غير ذلك، مما جعل إحدى افتتاحيات جريدة «القبس»، وهي الجريدة الأكثر تمثيلا للتوازن الإعلامي تقول في 30 سبتمبر (أيلول) الفائت: «بمجرد أن يبدأ نائب أو نواب بالهجوم على وزير معين، يسارع المتابعون في عالم السياسة إلى التفتيش عن الأسباب الحقيقية التي تقف في خلفية الحملة النيابية، وفي الكثير من الأحيان يجدون أن الأسباب شخصية أو فئوية أو طائفية أو مذهبية أو.. مخجلة أحيانا..». ليس هناك توصيف أكثر وضوحا من تلك الأسطر التي ربما تعبر عن ضمير الكثيرين في وصف العلاقة المأزومة بين أفراد السلطتين، والتي خرجت عن مقاصد خدمة الناس، وجلب الخير العام إلى التصيد السياسي والتصعيد المأزوم.

إذا كنت وصفت المرحلة بأنها «تسيب» وصفها آخرون كونها «استباحة» وكلا الوصفين وما شابههما تقود إلى غياب الحُلم الذي أراد الكثير من الكويتيين أن يحلموا به، وهو حرية وتنمية في آن، الذي تحول إلى استنزاف الطاقات، وهدر الجهود وتضييع الوقت في معظم الأحيان على قضايا فرعية.

في مدارات الحلقة المفرغة، من ترجيح المصالح الخاصة على الصالح العام، وإحلال المناكفة السياسية على التوافق لتحقيق الغايات المجتمعية، تدهورت الإدارة العامة إلى درجة لم يصبح المواطن يوقن بالإصلاح، ولم يجد أمامه غير النائب الذي يحقق له مصالحه أو حتى رغباته من خلال عملية نفعية متبادلة، مما عطل مؤسسات الدولة وأضحت في تراجع.

في هذا الجو من التسيب يتحول العمل السياسي في الغالب إلى صراخ، والعمل الاقتصادي إلى اقتناص، والعمل الخدمي إلى تنفيع، والعمل التعليمي إلى ترفيع وتخريج دون محتوى، والمواطنة إلى كتل طائفية وقبلية ومناطقية. وبُنيت على مر سنوات التجربة، ثقافة سياسية تعتمد المعارضة الموسمية، تعرف ما لا تريد، ولكنها لا تعرف ما تريد، وحجر على نقد الممارسة حتى غدا أي نوع من النقد بمثابة الجريمة الوطنية، وأصبح المجتمع يحمل ثنائيات لا يطيقها القماش الاجتماعي الكويتي وظهرت سياقات تنابزية لم يألفها في السابق. مع الصراع السياسي، ونقله إلى خارج أماكنه الطبيعية، انزلق حجم كبير من وسائل الإعلام إلى خطاب إعلامي متدن واستفزازي وتلوث الرأي العام بسماع عبارات نابية في حق هذه الفئة أو تلك من قوس القزح السياسي، حتى وصف أحد كتاب الخليج ما يجري بأنه «شيطنة للتجربة الكويتية».

خوفا من الخوف تم اغتيال الحُلم في المشاركة النافعة الإيجابية من أجل تسيير دفة المجتمع، وأصبحت التجربة الكويتية للجيران الأباعد قبل الأقارب، بمثابة الفزاعة السلبية التي يقرنها المتابع بضعف مخرجاتها النافعة وتعاظم مخرجاتها السلبية في التسيب وضياع الفرص وتدني مستوى الاحترام في الخطاب وانعدام الإنتاجية. ولم يكن كل ذلك محتملا أن يعود إلى جادة الصواب، أمام النصائح والخطب والمساومات التي جاءت من أعلى الهرم السياسي، حتى وصل الأمر إلى قاع يهدد السلم الاجتماعي بعواقب وخيمة.

المرحلة القادمة تحتاج إلى مصارحة قبل المصالحة، وإلى رفع شعار يصاحبه التطبيق، في الإصلاح الحازم - وطريقه بين؛ أوله إصلاح هيكلية الدولة وكوادرها المنوط بها تنفيذ خطط التنمية، فهذه الخطط لن تنتهض والهياكل الإدارية للدولة مركبة - في غالبها - على قدرة المسؤول فيمن يعرف، لا على ما يعرف، والتي خضعت لها الإدارة، في أغلب الأوقات السابقة إرضاء واسترضاء. كما أن الإصلاح هو تطبيق روح القانون بعدل وإنصاف. والنظر بجدية في فصل السلطات وخاصة التشريعية - وبحزم - عن التنفيذية، وإعادة النظر في قانون الانتخاب، ومهما بلغت التضحية ووعورة الطريق إلى ذلك الإصلاح. ليس من المنطقي أن تتقدم مجتمعات ودول وبعضها يعيش على إعانات خارجية، فيما يتوفر للبيئة السياسية الكويتية فسحة كبيرة من التمويل السهل ومع ذلك تصاب بهذا التعثر، وليس من المعقول أن تجلب الدول رأس مال بشريا من الخارج ويتوفر للدولة الكويتية قدرات بشرية مدربة بنيت قدرتها على مر السنين. وليس من المعقول أن تنشغل مؤسساتها في الصغائر وأمامها تحديات إقليمية خطيرة، كما أن شق الصف الوطني يفرش الطريق إلى تدخلات من قوى خارجية. لقد أزف الوقت في التفكير الجديد، التفكير في الوطن من خلال المواطنة، وذلك حتى الآن كان مسكوتا عنه أو لم يفعل.