سبل تحقيق التنافسية في العالم العربي

TT

ظل البعد المجالي، في مختلف الأحقاب التاريخية، في صلب اهتمامات الباحثين وخصوصا الجغرافيين منهم، وذلك بحكم طبيعة اختصاصهم. كما ظل مركزيا في تأطير ممارسة مختلف الفاعلين في ميدان التنمية الاقتصادية بشكل عام، وذلك بوازع مفاهيم ومقاصد تأقلمت باستمرار مع التطورات التي عرفتها نظريات التنمية ومناهج التخطيط والبرمجة والمتابعة والتقييم، وبتفاعل مع سيرورة أنماط الإنتاج والاستهلاك والتبادل على الأصعدة الدولية والإقليمية والمحلية.

وهكذا فكثيرا ما تم التعامل الاستثماري بجميع صيغه مع المجال، من لدن أصحاب القرار الرسمي والخاص، خلال حقب طويلة من القرن الماضي، باعتماد ما يتميز به مختلف وحداته الجغرافية من موارد طبيعية وبشرية، باعتبارها أهم عنصر في العملية الإنتاجية والمحرك الأساسي لمسلسل النمو، وذلك في إطار سياسات ذات طابع حمائي تسعى الدولة، في أحسن الأحوال، من خلال تدخلها المباشر، إلى توزيع عائداتها الممركزة جغرافيا بشكل يقلص من الفوارق المجالية والاجتماعية على صعيد المجموعة الوطنية.

غير أن مسلسل تسارع الثورة التكنولوجية وعولمة الأسواق وسيطرة التنافس الدولي، أدت تداعياته إلى تكيف كوني متنام لأنماط العلاقات الاجتماعية والمناهج التدبيرية، والقيم الثقافية والسلوكيات الفردية والجماعية على السواء، وذلك في مجال عالمي أصبحت فيه الحدود الجغرافية والسيادية تتهاوى مع تآكل مناعتها الموروثة، وتحل مكانها حواجز افتراضية تحترفها كل أنواع التيارات المعلوماتية والفكرية والمالية وغيرها. وليس من أقل المفارقات تميزا في هذا المسلسل المتصاعد ما نلاحظه بالموازاة مع اتساع مظاهره من الحضور القوي للمجالات الإقليمية والقطرية والجهوية بل والمحلية، في اهتمامات الدول، النامية منها والمتقدمة على السواء، ولدى مختلف تنظيماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مما يتجلى في إصرارها على إبراز معالم هويتها الحضارية وخصوصياتها الثقافية، وتبنيها للديمقراطية في تدبير الشأن العام، وبالذات في مستويات الحكامة المحلية.

وفي هذا الإطار، عرفت العقود الأخيرة تراجعا متزايدا لتدخل الدولة المباشر في كثير من الميادين الاقتصادية، واعتمادا موازيا على اللامركزية، وذلك في جو عام من الجدل النظري والسياسي، تتوزع أطرافه ما بين متشكك في قدرة المجالات القطرية والجهوية، ناهيكم عن المحلية منها، على مواجهة إكراهات العولمة دونما اختلال في توازناتها الاقتصادية والاجتماعية ومساس بمقوماتها الثقافية، وبين متحمس على العكس من ذلك لما يتيحه الانفتاح على العولمة من فرص، وما يفرضه من تأهيل اقتصادي وارتقاء بمستوى الحكامة، وبالتالي من خلق لشروط تنافسية تؤدي في نهاية المطاف إلى تقويم حتمي للتوازن الاجتماعي وتكامل شامل بين مختلف المجالات، كل منها حسب مؤهلاتها ومقدراتها البشرية.

والحقيقة أن النظام الاقتصادي المعولم قد جعل من المجالات على اختلاف مستوياتها وحدودها السيادية، ميادين مفتوحة على المنافسة الدولية، مما يؤدي بكل منها إلى تكثيف الجهود لتأهيل مقدراتها الخاصة والرفع من جاذبيتها، وذلك عن طريق تحسين أداء تنظيماتها الإدارية والبشرية، وتوظيف مقاربة «الذكاء الاقتصادي» فيما أصبح يعرف بالذكاء المجالي، بقصد تسخير التنظيم ووسائل البحث والتواصل والتوثيق، وتحويل ذكاء الأفراد وكفاءاتهم إلى ذكاء جماعي يرفع من كفاءة المجموعة البشرية التي يحتضنها المجال ويقوي من تنافسيتها إزاء مجالات داخل وخارج الوطن.

إن من أهم نتائج هذه التطورات ما عرفته مناهج التخطيط الاقتصادي والاجتماعي في العالم، إذ أصبحت مقاربة التخطيط تتجه أساسا نحو اعتماد المستقبلية والمحتوى الاستراتيجي والتعاقد الديمقراطي بين الدولة ومختلف المستويات المجالية، على أساس مبدأ التخصص وتوزيع الأدوار والتكامل فيما بينها. فعلى المستوى الإقليمي، ترجح المقاربة البعد الاستشرافي، حيث تتحدد سيناريوهات المستقبل على ضوء التطورات الجيوستراتيجية للكيانات الدولية والقطاعات المالية والتكنولوجية مع وضعها في مسار متحرك لموازين القوى العالمية. وعلى المستوى القطري، يحدد التخطيط معالم المسار الاستراتيجي ويقف على التوجهات الكبرى والتوازنات الاقتصادية والاجتماعية العامة للمجموعة الوطنية، ويبرز مقتضيات التوازن المجالي على هذا المستوى، بينما على المستوى الجهوي (المناطق) يتبنى التخطيط منهجية إدماج البرامج على أساس مقومات التكامل وتثمين الموارد والخصوصيات، فيما يتسم المستوى المحلي بالاهتمام بالحاجيات الملحة والمتطلبات المباشرة والحياتية للسكان.

وهكذا، وبالعكس مما يعتقده البعض، فإن ما تفرضه ظاهرة العولمة والانفتاح من ضرورة تحديد لأدوار المجالات وتأهيلها، على أساس معرفة دقيقة للأوضاع وللرهانات والإمكانيات، يجعل من التخطيط المجالي أداة حيوية، بل يفترض فيه أن تكون توجهاته أكثر إرادية، نظرا لضرورة الحرص على التوازنات المجالية والإكراهات التنافسية وما تؤدي إليه من تعبئة كل مجال لموارده، سواء منها المادية والبشرية، أو غير المادية، ذلك ولو على حساب مستويات مجالية أخرى، أفقيا وعموديا.

أمام الأقطار العربية رهانات كثيرة، تتجلى أهمها في ضرورة الرفع من تنافسيتها الاقتصادية، ومواجهة عواقب تغير المناخ، ومكافحة الفقر، وتأهيل العنصر البشري، ومواجهة العولمة الثقافية. وإذا كانت ظاهرة العولمة تحمل في طيها مخاطر تعميق الفوارق وتعاظم قيم الفردانية، فإن الوضعية تستوجب تدعيم التآزر بين الجهات داخل كل قطر عربي، والعمل ما بين الدول كذلك بهذا المبدأ، بإحداث تجمعات إقليمية تستند على عناصر القرب الجغرافي ووحدة التاريخ والثقافة، التي تشكل حوافز قوية للتضامن من أجل المواجهة الجماعية لتحديات العولمة وما تنطوي عليه من مخاطر محتملة على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي بل والأمني، على المنطقة العربية بأجمعها.

إن الأقطار العربية لا تنقصها الموارد، طبيعية كانت أم بشرية. لكن العمل التنموي يفرض اليوم تبني رؤى واضحة، تعتمد على وضع أدوات استشراف، ورسم استراتيجيات مستقبلية بعيدة المدى، قادرة على تحديد موقع الاقتصاديات العربية إزاء التجمعات الدولية سواء في شمال البحر المتوسط أو فيما وراء الأطلسي.

فمن الأكيد أن الكيانات القطرية لم يعد بإمكانها منفردة مواجهة رهانات التنافسية، وهذا المعطى هو ما أدى إلى ميلاد التجمعات الإقليمية (الجهوية) الكبرى في أوروبا وأميركا وآسيا، التي تحتل اليوم وغدا مواقع الصدارة والهيمنة في العلاقات الدولية، الاقتصادية منها والسياسية والعسكرية.

لقد كان موضوع استراتيجية التنمية المجالية بالمغرب محط اهتمام متزايد منذ فجر الاستقلال، وشكل أحد الأبعاد الرئيسية لسياسة التنمية في المغرب. فلم يكن نظام التقطيعات المجالية في المغرب وليد القرون الأخيرة. إذ كانت المملكة المغربية، وقبل الفترة الاستعمارية، مكونة من عدة مناطق هي عبارة عن مجالات تتشكل حول خصوصيات اجتماعية وثقافية، وتتمتع بمستوى معين من الاستقلالية في التدبير، لكنها تتوحد في إطار دولة مركزية تضمن رابطة البيعة تآزرها ووعيها بالانتماء إلى أمة واحدة قائمة الذات، على أساس التنوع المجالي والثقافي، وهو ما شكل مصدر المناعة السيادية للمغرب وتلقيبه بالإمبراطورية الشريفة، كمقابل للإمبراطورية العثمانية.

وخلال الفترة الوجيزة التي خضع فيها المغرب للحمايتين الفرنسية والإسبانية، اعتمدت السلطات الاستعمارية تقسيما ذا طابع أمني، وذلك قبل أن يتبنى المغرب المستقل مقاربة مجالية تنموية وتحديثية. فقد كان المغرب من بين الدول الأوائل التي سعت، منذ عقد السبعينات، إلى اعتماد التنمية المجالية كبعد أساسي لمخططات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. حيث تم مع مطلع السبعينات إنشاء سبع جهات اقتصادية بالمملكة كفضاءات توضع وتنفذ فيها برامج عمل تنموية، وذلك بتعاون مع مختلف المتدخلين. وتم تدعيم هذه التوجهات، حيث تم خلال سنة 1992 الارتقاء بالمؤسسة الجهوية من هيئة استشارية إلى جماعة محلية خول لها قانون 1997 صلاحية القرار في شؤون التخطيط المجالي وإنعاش التنمية بالمجال الجهوي. كما تم في عام 2002 توسيع صلاحيات المجالس المنتخبة على المستويين الإقليمي والمحلي ليتضمن مختلف القضايا ذات الصلة بالحياة اليومية للمواطن، من إنجاز وتدبير البنى التحتية المحلية وشبكات الخدمات العمومية والأنشطة الاجتماعية والثقافية.

وفي السنوات الأخيرة، ومع اختيار المغرب للتبادل الحر الدولي، تم وضع معالم تدبير ترابي جديد في مستوى رهانات العصر يتلاءم مع قدرات مجتمعنا، وكفيل بالحفاظ على التماسك الوطني وتعبئة كافة الطاقات وتدبير أكثر فعالية للموارد في إطار التآزر بين المجالات.

فالمغرب المنتمي بجغرافيته وثقافته وتاريخه للعالم العربي والمجال المغاربي والأفريقي، يصبو أيضا إلى توطيد علاقات متعددة ومتميزة للتبادل مع كل التجمعات الاقتصادية في العالم، يتبنى داخليا استراتيجية للتنمية المجالية، يوجهها الملك محمد السادس ويرعاها بمبادراته وتتبعه اليومي. وقوام هذه الاستراتيجية، إنشاء أقطاب تنموية في مختلف الجهات، يتم إنجازها في إطار رؤية استشرافية للموقع الجغرافي للمغرب كما هو فيما يخص البعض منها ذات الطاقات الواعدة، حال ميناء طنجة - المتوسطي، الذي من المرتقب أن يتم إنجازه بشراكة متعددة الأبعاد مع أقطاب اقتصادية مشرقية ذات علاقات تجارية وإشعاعية آسيوية، من بينها ميناء دبي الذائع الصيت بالذات.

وإن من شأن مثل هذه الإنجازات أن تشكل نماذج لما يمكن أن ينتج عن عمليات التعاون البيني البناء بين المشرق والمغرب وتؤسس لدعائم متينة للتنمية المجالية الإقليمية. ومن المؤمل أن تمتد مثل هذه الشراكات إلى التعاون بين كل الدول العربية وخاصة منها المتجاورة، وبالذات في مجالنا المغاربي، عن طريق تضافر الجهود من أجل نبذ عوامل التفرقة والخلافات المصطنعة، مما سيشكل جوابا مناسبا لتحديات العولمة ولمطالب توطيد ظروف الاستقرار والسلام والرفاهية لبلداننا، وذلك تماشيا مع أواصر الأخوة والدين والمصير المشترك، واستجابة لمطالب شعوبنا التواقة إلى توفير كل أسباب الازدهار الاقتصادي والتنمية البشرية والاستقرار الأمني للأجيال الصاعدة.

* المندوب السامي للتخطيط في المغرب (وزير التخطيط)