الليبراليون والتغريد خارج السرب

TT

أفكر في أن الليبرالي ذئب وحيد لم يطرده القطيع أو يخلعه، بل هو الذي اختار أن يبتعد عنه بإرادته الحرة بعد أن عجز عن الاستمرار في مجاملة زملائه ومسايرتهم في التهام بقية حيوانات الغابة. وهو بهذا الموقف جعل من نفسه فريسة لزملائه في الغابة، وأيضا فريسة للصائدين القادمين من خارجها. هكذا يحيط به الخطر من كل جانب غير أنه على وعي بأنه خطر يليق به وبموقفه تماما كالبطل التراجيدي العاجز عن الإفلات من مصيره.

إنه الغريب في كل حكاية وفي كل قرية وفي كل محطة قطار، أما الأمر الذي يعجز عن استيعابه حقا فهو أن الآخرين يشعرون بخوف غامض منه، لا هو ولا هم قادرون على تحديد مصدره، من هنا ظهرت تلك الكليشيهات الشهيرة عن السباحة ضد التيار والتغريد خارج السرب. الليبرالي لا يسبح ضد التيار عمدا أو على سبيل الهواية أو رغبة في إغاظة الآخرين، التيار هو الذي يسبح ضده بينما هو يضرب المياه بيديه بقوة ليصل إلى بر الأمان، له وللجنس البشرى. كما أنه لا يغرد خارج السرب، بل هو قد ذاكر وقرأ جيدا وحفظ عن ظهر قلب حروف النوتة الموسيقية التي كلفت طيور السرب أن تغنيها، ثم فوجئ بها تغني أغاني أخرى هي إلى النشاز أقرب. طيور السرب لم تؤد واجبها في حفظ اللحن وهضمه فحولته إلى نشاز مزعج، فهل يسايرها ويشاركها في إفساد الرحلة في السماء الصافية الجميلة؟

هنا يكون غناء اللحن الأصلي تمسكا بشرف المهنة، مهنة التغريد، هذه هي مهمته ووظيفته وعشقه ومبرر وجوده. الكف عن تأدية وظيفته فيه ضياعه وفناؤه، لا مفر من أن يواصل عمله على أمل أن تتنبه بعض طيور السرب إلى أنها خرجت على اللحن الأصلي وأنه لا بد لها من الغناء الصحيح لكي تستمتع به بقية مخلوقات الله.

والليبراليون في كل المجتمعات هم أفراد من المستحيل أن تضمهم جماعة أو تنظيم، هم أشبه بزهرات برية متباعدة ومتناثرة نبتت في حقل أشواك، إذ إن خوفهم على فرديتهم يكاد يبلغ حد الظاهرة المرضية. فرديتهم هي السياج الذي يحميهم من عدوان الدنيا عليهم، تماما كقشرة القواقع الصلبة، في اللحظة التي ينضم فيها الإنسان الفرد إلى تنظيم سياسي أو اجتماعي، يفقد على الفور جزءا من حريته يتم توظيفه لصالح الجماعة، إلى أن نصل إلى تنظيمات يتم فيها مصادرة حرية الإنسان الفرد بالكامل وعقله أيضا لحساب الجماعة أو التنظيم، وهو ما يحدث في التنظيمات الفكرية الثورية الدينية، وعندما يكتشف عضو الجماعة أنه قد فقد حريته وحاضره ومستقبله من أجل هدف كان يظنه عظيما، يكون الوقت لنجاته قد فات. لا توجد مبادئ ولا يحزنون، هناك شخص واحد أعطى نفسه وسلّم له هو بدور الزعيم، شخص واحد، ليس له صلة بالموسيقى حتى ولو كمستمع، هو لا يستمع إليها أصلا لأنها تشعره بالألم. هذا الزعيم سيمده بالنوتة التي كتبت حروفها من نار وديناميت ليغني أغنية واحدة ثابتة هي: ما أجمل أن أقتلكم وأموت معكم بعد أن فقدت حريتي من أجل زعيمي وتاج راسي.. وحبيبي.. يا ليل.

هنا سنتوقف طويلا لنناقش ما قاله الأستاذ عبد الرحمن الراشد في عموده الأحد الماضي (19 ديسمبر 2010) الذي أوضح فيه أنه «يمكن أن يكون الإسلامي والقومي ليبراليا، ولكن يستحيل أن يجتمع الإسلامي والشيوعي في ثوب واحد» الواقع أنني أوافق على الشق الأول من كلامه مع تعديل بسيط، هو أن الإسلامي والقومي وحتى الماركسي، عندما يكون متمتعا بعاطفة اعتبار للذات قوية فلا بد أن يتحول إلى الليبرالية، لأنه ببساطة عاجز عن معاندة نفسه ومخالفة ضميره، وما دامت الحقيقة هدفه والحكمة ضالته فمن المؤكد أنه سيتحول إلى الليبرالية أي إلى الحرية. وهذا هو ما أثبته التاريخ المعاصر في مصر وغيرها، عدد كبير جدا من المثقفين تحولوا إلى الليبرالية كطريق وحيد للتنمية والحفاظ على حقوق الإنسان. أما أنه من المستحيل أن يجتمع الإسلامي والشيوعي في ثوب واحد، فهو مستحيل فعلا، هما ثوبان إذن، غير أنك لو دققت في مقاسات الثوبين وشكلهما العام، فستكتشف على الفور أنهما من تفصيل مصمم أزياء واحد. ما يجمع بينهما بالفعل - في حال التطرف - هو آليات التفكير المتطابقة والمتماثلة، آليات التفكير عند كل أنواع المتطرفين واحدة، هي أشبه بمكونات الدواء الثابتة التي تختار لها شركات الدواء أسماء مختلفة. هذا ما يفسر أن متطرفا ماركسيا يتحول إلى التطرف الإسلامي، الواقع أنه لم يتحول، هو قام فقط بتغيير اسم الدواء على الزجاجة واحتفظ بكل مكوناتها بداخله وذلك لأسباب تسويقية. كان يخوض معاركه ضد الغرب والامبريالية لأنهم يمنعون الناس من الوصول إلى جنة الشيوعية على الأرض وما زال يخوضها في ثوبه الجديد بنفس الضراوة بعد أن سماهم كفارا.

وعندما نقول إن «العلمانية نظام عمل بينما الليبرالية مبدأ عام يؤمن بالحرية» فلا بد أن نضيف أنها - العلمانية - نظام عمل أساسه الحرية. الواقع أن الحرية كلمة شهيرة للغاية أما معناها فيكتنفه غموض شديد، معظم الناس تتصورها أداة خاصة بالكتاب والمثقفين والفنانين فقط، فقد تصادف أن كانوا هم المدافعين عنها بالحق أحيانا وبالباطل في أحايين أخرى، إذا كانت حرية التعبير تنتج العمل الفني العظيم، فهي أيضا تؤدي إلى تنمية المجتمع في كل المجالات وهذا هو الأصل والأساس فيها. عندما يريد الليبرالي الحرية فهو يريدها للناس لكي يحققوا المزيد من الإنجاز والإبداع في كل مهنة. بالحرية تتحقق التنمية كما تتحقق الكبرياء الإنسانية للبشر. من الغريب أن الحرية تصنعها القيود بأكثر مما تتيحها المساحات المفتوحة للفعل. لا بد من الاعتراف بأن هناك خصوما للحرية بدافع من الإحساس بالضآلة أو العجز أو الغيرة المرضية، هؤلاء الخصوم عندما يصلون إلى أماكن حاكمة يمارسون بكل نشاط حجب الحرية عن الناس، إنهم مناعو الخير، من هنا جاءت أهمية سيادة القانون والالتزام به، وهو ما يعني من بين ما يعني أن الحرية هي الالتزام بالأعراف وبالقوانين وبالتقاليد، هذه هي العناصر التي ترصع الطريق إلى الحرية. هنا نصل إلى الفرق الجوهري بين المثقف الليبرالي والمثقف الشمولي، الأول يطلب الحرية ويحميها بالقانون والثاني يخشاها ويحرم منها الناس ويحتفظ بها لنفسه ليستخدمها في ضرب الآخرين. هكذا تمشي المجتمعات في طريق الفقر والمزيد منه.