الحق يقال

TT

تساءل الزميل صلاح المختار، كيف وأنا أملك كل هذه المواهب أعتذر عن عدم قدرتي على إصدار صحيفة تنافس «الشرق الأوسط». تقصيري في الارتقاء للموضوع أثار تساؤل الكثيرين، كان منهم الزميل أبو السعود الذي سألني عند تكريمي بدار الإسلام بلندن هل تعدد مواهبي حال دون تقدمي!

أريد التوغل في الموضوع قليلا للفائدة والتاريخ والإنصاف. قضيت كل عمري الطويل من دون أن تعبأ أي حكومة في العهد الجمهوري في العراق بالاستفادة مني. رفضوا حتى تشغيلي معلم مدرسة. فئتان فقط انتبهتا للاستفادة مني: الإخوان السعوديون في «الشرق الأوسط»، ونظام صدام حسين. كنت قد هاجمت هذا النظام في الإعلام العربي والإنجليزي، فوضعوني في القائمة السوداء، وصادروا جواز سفري. بيد أن السفير العراقي اتصل بي في السبعينات، وقال: «نحن نعرف موقفك، وأنك ضد النظام، لكننا ننوي فتح مركز ثقافي لنشر الثقافة العراقية والعربية في بريطانيا. أنت من العارفين في الموضوع. انس مشكلاتك معنا واخدم بلدك وثقافة بلدك». تطوعت للموضوع، ثم ضموا إلي آخرين: صلاح نيازي وديفيد كنكيان وفاضل العزاوي ولطيف جريفاني. كنا اثنين من السنة واثنين من الشيعة ومسيحيا. لم يكن أي منا بعثيا أو متعاطفا مع النظام. أسسنا لجنة استشارية لتوجيه المركز. وما هي إلا أشهر حتى أصبح من أهم المراكز الثقافية في لندن، وأشادت به حتى «الأوبزرفر» كمركز جدير بالزيارة. عينوني أخيرا استشاريا للمركز. وكنت حرا كليا في أداء مهماته. دعوت شتى الشخصيات اليسارية مثل فرد هلدي، واليمينية مثل بيتر مانسفيلد، للمساهمة في نشاطه. كانت التعليمات تقول اتصل بأي مثقف أو أستاذ أو عالم عراقي أو أجنبي، وادعه للمساهمة في حضارة العراق وتنميته. وكانوا يدفعون مكرمات وأجورا سخية لهم. الخط الأحمر الوحيد هو ألا تتعرض لصدام حسين أو تهدد نظامه.

سنوا قانون المواهب لدعوة كل خريج عراقي للعودة للعراق وتسلم وظائف وأراض ومكافآت سخية جدا. عرضوا علي ذلك واعتذرت.

لا اعتراض عندي على حاكم مستبد عاقل وعادل في بلد متخلف. لكن منذ غزو إيران اتضح أن صدام حسين ليس بذلك الحاكم. إنه في الواقع رجل طائش مختل العقل تنبغي إزاحته. انتقلت إلى الخندق المقابل. وبعد قيام النظام الجديد طرحت نفسي رسميا خمس مرات للعودة للعراق لأول مرة وخدمة البلد ولو مجانا. ورفضوني في كل مرة. الحقيقة واضحة، وهي أن الأنظمة الديمقراطية الفاسدة لا تريد رجالا أكفاء يكشفون ويفضحون عمليات الفساد الديمقراطي بكفاءة.

هكذا يتضح أن نظام صدام كان أحرص نظام ظهر في العراق على اجتذاب المثقفين والخريجين والعلماء للعمل في بلدهم أو لبلدهم - مع ملاحظة الخط الأحمر. قارنوا ذلك بما قالته إحدى وزيرات النظام الجديد عند زيارتها إلى لندن قبل أشهر. حذرت الحاضرين: «الرجاء عدم العودة.. فلا نعرف ماذا سنفعل بكم».

مصيبة البلدان المتخلفة - كما تعرف يا أخي صلاح المختار - ليست فقط أنها لا تعرف كيف تستغل ثرواتها، وإنما كذلك لا تعبأ بكفاءات ومواهب أبنائها. فدعني أتدفأ بمن يقدر ذلك، إخواننا أبناء المملكة العربية السعودية.. والعراق له الله.