في غياب الوعي.. العالم العربي إلى أين؟

TT

«لقد تعلمنا كيف نطير كالطيور وكيف نسبح كالأسماك لكننا لم نتعلم مسألة بسيطة هي العيش كإخوة»

(مارتن لوثر كينغ الابن)

الديكتاتوريات بشتى أشكالها لا تبرر انعدام الوعي عند الناس، بل هي عند الشعوب الحية عنصر محفز له. والمأساة التي يعيشها عالمنا العربي، وبالأخص كياناته التي كانت لها تجارب مع التعددية والديمقراطية، مثل السودان ولبنان، أن شعوبها «استغنت» عن الوعي وأسلست القياد للديكتاتوريات الحاكمة والمتحكمة، في بعض الحالات باسم الإسلام، وفي حالات أخرى باسم المقاومة، وفي حالات غيرها تحت تأثير هالة القائد الاستثنائي الملهم المعصوم عن الخطأ.

في لبنان، ينتهي عام ويبدأ آخر، في ظل نظام معطل، ومؤسسات مشتتة، وطوائف متعادية ومتناقضة الأهداف، وقيادات تتصرف – كما هي فعلا – كزعامات عشائرية فوق المساءلة والمحاسبة، دأبها استغلال استسلام قواعدها الشعبية للخطاب الطائفي التحريضي وأحلام الهيمنة والثأر. ومع انعدام الحس بـ«المواطنة» وتفاقم الجهل بعد الحرب التي استمرت بين 1975 و1990، والجاهزية الدائمة للاستقواء بالخارج لتغيير ميزان القوى الداخلي، يكفي لأي خلاف أن يتحول إلى معضلة تهدد التعايش الهش.

ولكن، نظرا لأهمية لبنان، كصيغة امتصاص صدمات في معادلة الصراع العربي - الإسرائيلي، والاعتبارات المصلحية المتناقضة ظاهريا والمتفقة استراتيجيا لجيرانه عليه، إضافة إلى صغر حجمه، صرف النظر عن تقسيمه.. ورجحت مجددا فكرة «تلزيمه». ولا تزال فكرة «التلزيم»، أو «التوكيل»، هي ما تتفاهم عليها الصفقات الإقليمية والدولية، بينما الوعي الشعبي اللبناني في إجازة.

السودان، وضعه مختلف عن وضع لبنان. فمن حيث الحجم، السودان هو – حتى استفتاء الجنوب – أكبر دول أفريقيا مساحة، وبالتالي، فهو في ظل تركيبته السكانية التعددية بلد قابل للتقسيم. ثم إنه بعيد جغرافيا عن خطوط نار الصراع العربي – الإسرائيلي، وجبهة التوسع المباشر للمشروع الإيراني، في حين أنه متصل بالعمق الأفريقي، وتربط عدد من شعوبه في الجنوب والغرب روابط اللغة والعرق مع شعوب دول أفريقية مجاورة.

ولكن المشكلة المؤلمة مع السودان أن شعبه الحي أيضا استقال من مواجهة مشروع انتحاري سياسيا، وهو الآن يقف شاهدا على ما يمكن أن يكون بداية مأساة متطاولة لا نهاية حالة شاذة. فالقيادة السودانية، بدلا من أن تخجل من شعبها ومن العالم لإخفاقها في الدفاع عن وحدة تراب الوطن، التي هي المهمة الأساسية لأي حكم، تغطي إخفاقها السياسي... بالإسلام ومصلحة المسلمين!

كان غريبا حقا كلام الرئيس عمر حسن البشير، في مدينة القضارف أخيرا، عندما قال: «إذا اختار الجنوب الانفصال سيعدل دستور السودان، وعندها لن يكون هناك مجال للحديث عن تنوع عرقي وثقافي، وسيكون الإسلام والشريعة هما المصدر الرئيسي للتشريع».

كلام غريب، لأن الرئيس البشير مقتنع بأن لا تنوع عرقيا ثقافيا في السودان إذا ما انفصل الجنوبيون، وبالتالي، فالنوباويون في كردفان والفور والمساليت وغيرهم في دارفور... عرب أقحاح. ولكن إذا كان هذا صحيحا، فكيف يفسر لنا الفصل المقبل من الانفصال المرشح له إقليم دارفور؟ أوليس الفور وجيرانهم في الإقليم من المسلمين؟

ثم، بكل الصراحة والحب، أتساءل عن أي نموذج أفضل اليوم... نموذج الهند، البلد المؤسساتي التعددي الناهض اقتصاديا وتكنولوجيا... أم نموذج باكستان، البلد «المريض» الذي حكمه العسكر مباشرة أو من وراء الستار لأغلب فترات حياته كدولة مستقلة منذ 1947؟ أي من البلدين نجح أكثر في الحفاظ على وحدة أرضه؟ أيهما له الوزن والاحترام في المجتمع الدولي؟ أيهما الأكثر جذبا واستقطابا للاستثمارات الخارجية؟ أيهما تعد معاهده العليا ومؤسساته البحثية بين الأهم في آسيا؟ أيهما صنع أثرياؤه ثرواتهم من الصناعة والتكنولوجيا والاستثمارات «المشروعة»؟

هذه أسئلة يجب أن نطرحها، كلبنانيين وكسودانيين - وطبعا كعرب - على أنفسنا... قبل أن نبدأ بالهتاف والشتم.

أكثر من مليار نسمة، كحال الهند، يعيشون، على الرغم من التناقض الهائل في المداخيل، والاختلاف الديني واللغوي والثقافي الكبير ضمن دولة اتحادية ديمقراطية قوية الجانب، نمت فيها حياة حزبية حرة سليمة تتيح مؤسساتها الديمقراطية لشعبها محاسبة المتطرفين في نوبات تطرفهم، وتشجع تعدديتها الجميع على الاعتدال.

أليس هذا النموذج الاتحادي والتعددي والديمقراطي، أفضل من نموذجي لبنان والسودان... حيث الكلام الفصل لـ«الولي الفقيه» و«الجنرال الفقيه»؟