القول الفصل في 1008 كلمات!

TT

طالما أني في حالة تجلٍّ، بسبب أخبار نتائج النشر العلمي للجامعات العربية، التي كشفت مؤخرا أن كلية واحدة من كليات جامعة الملك سعود، وهي كلية العلوم، نشرت ضعفي نشر أربع جامعات سعودية، ونصف نشر جامعة القاهرة، فكرت وأنا في هذه الحالة أن أعزز شعور الزهو باستذكار الماضي، لأن إسقاط الماضي المتواضع على الحاضر الكبير يزيد اللحظة وهجا.

اشتعل الرأس شيبا، وعُض على الشفاه حتى أدمت، حينما كانت الباحثة أو طالبة الدراسات العليا في جامعة الملك سعود تتسول على أبواب المستشفيات الكبيرة تبحث عمن يقبل استضافتها لإنجاز مشروعها البحثي، أو تحصل على موافقة لاستخدام تقنية أو مجهر في مختبر، فإتمام الأبحاث في الجامعة كان أشبه بمعجزة، خاصة للعنصر النسائي الذي لم يكن فقط في الخلف، بل لم يكن له مقعد. كانت الخيارات محدودة والفرص شحيحة، فتوارت القدرات البحثية خلف ستار الإحباط واليأس. نتج عن هذا الحال ما أسميه بتجمعات المنهزمين، الذين ماتت في نفوسهم العزيمة، ودخلوا في طور السبات.

كلية العلوم نفسها، عروس البحث العلمي المحتفى بها اليوم بـ452 ورقة علمية، كانت قبل ثلاث سنوات تحتضن الكثير من تجمعات المنهزمين والمنهزمات، وحينما شرحت في وقت سابق الواقع النفسي لهذه التجمعات للدكتور عبد الله العثمان، مدير جامعة الملك سعود، قال ببساطة: «إن الله تعالى جعل لكل شيء سببا، لذلك، ستمنح الجامعة كل باحث فيها فرصة للنهوض، ستعطيه سيفا ودرعا، ولكن من يؤثر بعد ذلك أن يبقى في زاوية المنهزمين فلا حاجة للجامعة والوطن به».

هذه الرؤية الصريحة والجريئة أعطت الجامعة هذا العام 1008 أبحاث علمية منشورة في مجلات عالمية مرموقة، مثلت أكثر من مجموع النشر العلمي لكل الجامعات السعودية.

كيف هو شكل السيوف والدروع التي يعنيها مدير الجامعة؟ أولها دعم مالي كبير من ميزانية الدولة ذهب لمن أثبت أنه يستحقه؛ فالدولة سخية، ولكنها تحتاج لأن تطمئن أن سخاءها لن يذهب أدراج الرياح، لذلك أظن أن وزارة المالية اليوم ربما أكثر سعادة من الجامعة بهذه الأخبار السارة، فالجامعة في النهاية هي ابنة الدولة، ومن ذا الذي لا يبتهج بأن فلح أبناؤه وذاع صيت فلاحهم؟

أما الدروع فهي سياسة الجامعة التي حولت تجمعات المنهزمين إلى تجمعات بحثية مفعّلة، مدعومة، متحفزة، متحمسة، شبكية العلاقات محليا وخارجيا. اليوم نرى باحثي وباحثات الجامعة في كل قارات العالم، استطالت قاماتهم بعد أن كانوا منكفئين، فللباحث في الجامعة أن يضع إصبعه على الخريطة لاختيار أي مركز بحثي في أي جغرافيا، للانطلاق إليه في مشاركة بحثية أو تدريب، أنا كنت في الولايات المتحدة وكانت زميلتي تراسلني من الصين، وبقية الصديقات في بريطانيا، نحن اللواتي كنا إذا امتدت أقدام طموحنا 30 كيلومترا خارج أسوار الجامعة تحول الطموح إلى قضية من عناء، وأول العناء أن ثقافة الجامعة حينها كانت ثقافة منعزلة، مكتفية بذاتها المتواضعة، والخروج عن دائرة العزلة كان مستنكرا لأنه خروج عن المألوف، على الرغم من أن الانعزال، وعلى مر التاريخ، لم يفلح في إضفاء القوة لأي شخصية، من الأفراد وحتى الدول.

نعم إن لكل شيء سببا، هذا قطعا صحيح، أسباب النجاح تؤدي إلى النجاح، والإنجازات لا تستحدث من العدم، لذلك فجامعة الملك سعود يجب أن لا تكون مقياسا أو نموذجا للجامعات الأخرى فقط، بل لكل مؤسسات الدولة، لأن الجامعة بإنجازاتها في سنوات قليلة أقامت الحجة على الجميع، وجعلتنا نرى أن ما كنا نظنه بعيد الحصول هو في الحقيقة ملامس لأنوفنا إن أردنا، وأنه لا يوجد مبرر لتراجع الأداء والمخرجات في أي مؤسسة، إلا إن كانت المؤسسة نفسها رضيت أن تُبقي على تجمعات المنهزمين فيها.

* جامعة الملك سعود