المعرفة.. الثورة الاقتصادية الثالثة

TT

المعلومات هي رأس المال الجديد الذي سيحدد ملامح العالم الاقتصادية خلال السنوات القليلة المقبلة.. لم تعد الثروة هي الأموال التي تتكدس في البنوك، أو الطاقة التي تحرك عجلة الإنتاج، أو الأيدي العاملة التي تدفع النمو.

ثورة المعلومات هي الكنز الذي فتح أبوابه أمام البشرية في نهاية القرن العشرين، لتبدأ معه مرحلة جديدة من الحضارة الإنسانية.. مرحلة يشكل فيها اقتصاد المعرفة أهم ملامح الاقتصاد العالمي الجديد إلى درجة اتفاق الخبراء والعلماء والمفكرين على أنه الثورة الثالثة بعد الثورتين الزراعية والصناعية.

أتفق مع الرأي الذي يقول إن أعظم تغيير شهدته الحضارة الإنسانية حدث في الربع الأخير من القرن العشرين، وهو ثورة العلوم والتقنية فائقة التطور، التي تعد بحق الثورة الثالثة في مسيرة البشرية بعد الثورتين الزراعية والصناعية.

إن مفهوم المعرفة بوجه عام ليس جديدا، لأنها ارتبطت بالإنسان في جميع العصور وتطورت معه حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، ولكن ما يلفت النظر بالتحديد هو الحجم الهائل لتأثير المعرفة على مختلف جوانب حياة الإنسان الاقتصادية والاجتماعية.. فقد لعبت ثورة المعلومات والاتصالات دورا بارزا في هذا التحول الذي أتاح للإنسان ترويض الطبيعة إلى الدرجة التي جعلت التطور المعرفي أكثر العوامل تأثيرا في الحياة بين كل العوامل الأخرى المادية والطبيعية. وبمعنى آخر أصبحت المعلومات موردا أساسيا من الموارد الاقتصادية، بل والمورد الاستراتيجي الذي يكمل الموارد الطبيعية والبشرية في الحياة الاقتصادية. كانت الأرض والأيدي العاملة ورأس المال هي العوامل الثلاثة الأساسية للإنتاج في الاقتصاد القديم، أما الآن فأصبحت أهم أصول الاقتصاد الحديث هي المعرفة التقنية والإبداع والذكاء والمعلومات.. والأكثر من ذلك أن الذكاء المتجسد في برامج الكمبيوتر والتكنولوجيا أصبح أكثر أهمية من رأس المال أو المواد الخام أو الأيدي العاملة..

اقتصاديات المعرفة

فالأمم المتحدة، على سبيل المثال، تقدر حجم اقتصادات المعرفة في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 7% وتنمو هذه النسبة بمعدل 10% سنويا، وإلى جانب ذلك فإن 50% من ناحية الإنتاجية في الاتحاد الأوروبي هو نتيجة مباشرة لاستخدام وإنتاج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وهناك العديد من المصطلحات للتعبير عن اقتصاد المعرفة، منها «مجتمع المعلومات» و«الاقتصاد الرقمي» و«شبكة الاقتصاد الجديد» و«ثورة المعلومات»، ولكن في كل الأحوال يتحدد معنى اقتصاد المعرفة ببساطة في أن تكون المعرفة هي المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي اعتمادا على تكنولوجيا المعلومات والاتصال والابتكار. ولا شك أن المعرفة كانت تلعب دورا أقل في إطار الاقتصاد التقليدي المبني على الإنتاج.. أما في الاقتصاد الجديد فإن الموارد البشرية المؤهلة أو رأس المال البشري هي الأكثر قيمة، كما تتزايد في اقتصاد المعرفة المساهمات النسبية للصناعات المبنية على المعرفة مثل الصناعات ذات التكنولوجيا المتوسطة والخدمات المالية وخدمات الأعمال.

يستخدمون رؤوسهم

وهناك العديد من القوى الدافعة الرئيسية التي تؤدي إلى تغيير قواعد التجارة والقدرة التنافسية الوطنية في ظل اقتصاد المعرفة وهي العولمة Globalization وثورة المعلومات Information knowledg، حيث أصبحت المعرفة تشكل كثافة عالية في الإنتاج، بدليل أن 70% من العمال في الاقتصاديات المتقدمة هم عمال معلومات، وبمعنى آخر فإن العديد من عمال المصانع أصبحوا يستخدمون رؤوسهم أكثر من أيديهم، إلى جانب ذلك هناك أيضا انتشار شبكات الحاسب الآلي computer networking، نتيجة لذلك ازدادت الحاجة إلى تطوير السلع والخدمات بشكل مستمر، حيث أصبحت تباع وتشترى من خلال الشبكات الإلكترونية، وهو ما يؤكد ضرورة الإلمام بتطبيقات التكنولوجيا الجديدة.. هذه القوى أسهمت في توسع الإنتاج الدولي بمساعدة عوامل طويلة الأمد مثل تحرير السياسات وتلاشي الحدود بين الدول، بما أفسح المجال أمام كل أنواع الاستثمار الأجنبي المباشر. وفي الوقت نفسه أدى التغيير التكنولوجي السريع وانخفاض تكلفة النقل والاتصالات إلى تشجيع التكامل بين العمليات المتباعدة جغرافيا ونقل المكونات والمنتجات عبر العالم بحثا عن الكفاءة، باعتبار ذلك الأوفر اقتصاديا. ومع التطور الهائل للأنظمة المعلوماتية تحولت تكنولوجيا المعلومات إلى أحد أهم جوانب التطور في الاقتصاد العالمي، حيث بلغ حجم السوق العالمية للخدمات المعلوماتية عام 2000 نحو تريليون دولار، كما أدخلت ثورة المعلومات المجتمعات العصرية إلى حقبة ما بعد المرحلة الصناعية في مختلف حياة المجتمع سواء بنية اقتصادية أو علاقات العمل أو العلاقات الإنسانية والمجتمعية، كما ظهرت مع الثورة المعلوماتية مفاهيم جديدة مثل «الأمن المعلوماتي» و«الحرب المعلوماتية»، كأن يلجأ البلد المنتج لأجهزة الكمبيوتر عند تصديرها إلى تغذيتها ببرامج كمبيوتر مع فيروسات خاصة مهمتها تخريب شبكة المعلومات في البلد المستورد، والواضح أن الانتصار في مثل هذه الحرب المعلوماتية يكون حليفا للدول المتقدمة في تصنيع تكنولوجيا المعلومات.

الكوادر البشرية

ومن أهم مستلزمات اقتصاد المعرفة أيضا تطوير رأس المال البشري وترقية نوعيته. ومسؤولية الدولة هنا أن تخلق المناخ المناسب للمعرفة. وفي الوقت نفسه يتعين على المستثمرين والشركات إدراك أهمية اقتصاد المعرفة من خلال المساهمة في تمويل تعليم كوادرها البشرية ورفع مستوى تدريبهم وكفاءتهم وتخصيص جزء من استثماراتها للبحث العلمي. ويعد التعليم من أهم الأسس التي يقوم عليها مجتمع المعرفة. وقد سجلت الدول العربية نسبة مرتفعة من الالتحاق بالمدارس، كما تبذل غالبية الدول العربية جهدا كبيرا لرفع نسبة التحاق الأطفال بالمدارس ومراكز محو الأمية، ورغم ذلك فهناك مشكلة تتمثل في صعوبة الوصول إلى التوازن الملائم بين التعليم وتنمية المهارات ومتطلبات سوق العمل. وقد أشار تقرير التنمية البشرية العربية إلى أن جودة برامج التعليم وتنمية المهارات لا تزال تمثل أحد التحديات المهمة في العالم العربي والتي يجب مواجهتها لتنمية اقتصاد المعرفة.

طموحات للمستقبل

وإذا كان لنا أن نطرح بعض المفاهيم في اتجاه انتقال المجتمعات العربية نحو التحول إلى مجتمعات مدنية يلعب فيها الاقتصاد دور البطولة، فإن الأساس في تقديري هو الانتقال بالبنية الاقتصادية نحو أنشطة تتطلب من المعرفة أكثر مما تتطلب من رأسمال وأيد عاملة.

ولتحقيق ذلك مطلوب ضرورة:

- تطوير برامج التعليم والتدريب لتوفير الكوادر البشرية القادرة على إدارة اقتصاد المعرفة بالشكل الأمثل.

- أن تقوم وسائل الإعلام العربية بشرح مفهوم اقتصاد المعرفة في جميع مجالات المجتمع الاقتصادي والمدني وتقوم بالترويج له لأمان التنمية الإنسانية.

- العمل على زيادة انتقال المعلومات بشكل أسرع من خلال انتشار شبكات الاتصالات بحيث تتحول المعلومات لأن تكون أهم سلعة في المجتمع.

- تغيير المعارف العلمية في كافة المجالات إلى الشكل الرقمي لإتاحة توظيف المعرفة واستغلالها في تقديم خدماتها المختلفة.

- تسويق المعلومات بالشكل الذي يتيح تحقيق العائد المادي وتحويل المعرفة إلى ثروة.

- ضرورة توفير الوظائف في اقتصاد المعرفة للمبدعين والمبتكرين وأصحاب المهارات بحيث يولد اقتصاد المعرفة الثروة ويوفر فرص عمل جديدة.

- إقامة روابط تجارية بين المؤسسات الأكاديمية وغيرها من منظمات الأعمال والمؤسسات العلمية التي تستطيع مواكبة ثورة المعرفة.

- ضرورة تكييف ثورة المعرفة مع الاحتياجات المحلية للمجتمعات المختلفة.

- تقرير حول البنية التحتية للمعلومات والاتصالات لتسهيل نشر وتجهيز المعلومات والمعارف وهو ما يدعم النشاط الاقتصادي.

- توفير كل الأطر القانونية والسياسية التشريعية التي تساعد على زيادة الإنتاجية والنمو من خلال سياسات تخفيض التعريفة الجمركية على منتجات التكنولوجيا.

- زيادة القدرة التنافسية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة.

- إتاحة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بشكل أكبر للمجتمعات.

- إزالة كافة العقبات التي تعترض مشاركة المرأة بالشكل الملائم والعادل في اقتصاد المعرفة.

- عمل برامج تدريبية للمرأة تساعدها على الاندماج مع اقتصاد المعرفة بما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية.

- توفير فرص أكبر لتعليم المرأة على أدوات تكنولوجيا المعلومات مثل الحاسب الآلي واللغات وغيرها.

وأخيرا: فإن خصوصية المعرفة تنبع من صعوبة اقتنائها سواء عن طريق الخلق والابتكار أو الشراء..

وبعكس المعلومات فإن المعرفة خليط من الحقائق التي تتفاعل بشكل غير ملموس، وبالتالي فإن ثورة المعرفة ليست أبدا حشد وتجميع المعلومات بقدر ما هي توظيفها بشكل ابتكاري وإبداعي يحقق أهدافها في التنمية والتقدم والازدهار.

* رئيس البرلمان المتوسطي وعضو مجلس الشعب المصري