باريس: قلب حار تحت معطف الثلج

TT

الدنيا عيد. هنا في باريس، لا تشعر بأزمة الرأسمالية. غريزة الاستهلاك تتمثل بالإقبال الجنوني على الشراء. وقلب باريس حار. لا يأبه بالثلج. والمطر. والصقيع. ساحات المادلين. الأوبرا. بولفار أوسمان. وسائر الشوارع المتفرعة عنها، تغص بالمجانين الكبار الذين يحاولون إرضاء المجانين الصغار. فالعيد للأطفال. لكن من أين يأتي كل «بابانويل» في الأسرة بالمال. لشراء كل هذه الأطنان من الملابس. والحلوى. ولعب الأولاد؟!

لعيد الميلاد ضحايا. هذه الملايين من الأشجار المقطوعة، من الريف والغابات، تسخر من ثقافة المحافظة على البيئة والخضرة. الكل في إجازة للسهرة، ليلة الميلاد، في البيت حول الشجرة. قلة تذهب في منتصف الليل إلى الكنييسة التي لا تنفك عن قرع النواقيس الحزينة. أين بقية «المؤمنين»؟ يفضلون النوم بعد السهر. وكذلك الدين. فهو ما زال في سبات طويل في أوروبا.

صبيحة ليلة الميلاد، أمشي وحيدا. باريس جميلة. مغرية. وهي متدثرة، أو غير متدثرة، بمعطف الثلج. الشوارع شبه خالية. المداخن تنفث هبابها الأسود الخفيف، لتنبئ بأن هناك حياة تحت سقوف القرميد.

أمشي بسعادة. لكن بتؤدة. ما زلت أتألم من شروخ في أضلاع القلب، عندما أتذكر سقطة على ثلج جسر بيرير، منذ سنوات بعيدة. باريس تتذكر. لكن تتغير بسرعة. اختفى الجسر. واختفت الفتاة التي تزحلقت قبلي. ضحكت آنذاك. فقد طارت «فردة» حذائها، لتسافر على ظهر القطار المار تحت الجسر. لم أكد أبتعد خطوات، حتى تزحلقت بدوري. كم يغدو الثلج غادرا، عندما يحوله الصقيع إلى سكين بلورية حادة.

لكن الضفة اليسرى (ريف غوش) للسين لم تتغير كثيرا. ما زال «السوربون» في «كارتييه لاتان».

قليلة المقاهي والمطاعم التي اختفت. لن تعثر على كل المكتبات التي كان يطالع فيها ساكن حي سان جرمان الرئيس الراحل فرانسوا ميتران عناوين الكتب، وهو وحيد بلا حراس ومرافقين. في إحداها، أذكر أني عثرت يوما على كتاب بالفرنسية، يحمل أشد العناوين لؤما. تتصدر الكتاب صورة لكلب «بلدوغ». تحت الكلب عنوان: «الإنجليز كما عرفتهم»! لم أقتن الكتاب. خفت أن يأتي الإنجليز مرة أخرى، لإحراق جان دارك.

الفرنسية ليست بقديسة. لكن لا تصدق صديقك العائد من فرنسا، وهو يزعم أنه غزا الفرنسيات من النظرة الأولى. إذا أحبت الفرنسية. فهي التي تقبلك. إذا كرهت، أو أعرضت. فالمتنبي كان يعرف أنه لن يبقى في قلبها رضا.

الفرنسية تملأ باريس بالحب. بالدفء. بالحيوية، إلى حد الشراسة! الفرنسية حصلت على مكاسب وتقديمات اجتماعية مدهشة. مع ذلك فهي كئيبة. تتناول المهدئات بإدمان. لأنها تظن أن الرجل أكثر سعادة منها. وهي في الحياة تشكو من أنها أقل حظا في المساواة معه. في الموت، تدفنه باكرا وهو في الرابعة والسبعين. ثم تعيش بعده أرملة أنيقة، ثم تتذكره. فتلحق به في الخامسة والثمانين، بعدما يئست من الحب أو الزواج مرة أخرى.

في وطن عنوانه: «حرية. إخاء. مساواة». انتظرت الفرنسية أكثر من 150 سنة بعد الثورة، لتحصل على حق الانتخاب. ثم انتظرت عشر سنوات أخرى، لتحصل على حق فتح حساب في المصرف. سارع الرجل إلى الاعتذار. أجبر الأحزاب على ترشيح عدد متساو من المرشحين والمرشحات. واحتفظ بحقه في إسقاط المرشحات. ولهذا السبب، يحتل الرجال أكثر من 80 بالمائة من مقاعد الجمعية.

لا تتحسر، إذن، على أنظمة الآيديولوجيا العربية التي ملأت مقاعد مجالسها النيابية بالعمال والفلاحين العاطلين عن العمل والسياسة. تحسر عليها وهي تتفاخر بالتسابق اليوم إلى إجلاس أكثر من عشرين نائبة في كل برلمان. تذكر المشاغبة توجان فيصل. فقد كانت «نائبة» إلى حد المصيبة في مشاجراتها مع زملائها النواب.

الرئيس ساركوزي أكثر رؤساء الجمهورية الفرنسية الرابعة والخامسة، حيوية ونشاطا. هو أيضا من أنصار المرأة. طلق زوجته الثانية. وتزوج الثالثة. خطف من الحزب الاشتراكي أعضاء لامعين. وزر الطيب برنار كوشنير وزيرا للخارجية. ورشيدة داتي وزيرة للعدل. عندما حملت الوزيرة رشيدة بطفل من مجهول. وانتفخ بطنها، تشاجرت مع القضاة. خافت فرنسا من المحاكم الدولية. فنفت الوزيرة ذات الأصول العربية إلى البرلمان الأوروبي. أصاب سوء حظ رشيدة زميلها كوشنير. فاستغنى عنه ساركوزي، ليوظف امرأة أخرى وزيرة للخارجية.

حقق ساركوزي المساواة بين الرجل والمرأة. خسرت رشيدة مرتب الوزيرة. لكنها ستقبض مكافأة مالية عن كل حمل وولادة. فرنسا يهمها أن تنجب أطفالا، كي لا ينقرض الرجال. الإغراءات الحكومية والقانونية كثيرة: تخفيض الضرائب. إجازة طويلة للحوامل. تمرينات حكومية مجانية للحوامل بعد الوضع، على الجمباز. لتأهيل الجسم والرحم للحمل مرة أخرى.

المرأة العربية المهاجرة استفادت من مكاسب المرأة الفرنسية. تستطيع أن تحصل على الجنسية. فتطلق زوجها. لتحصل المطلقة على بيت من البلدية. ومدرسة مجانية للأطفال. وعمل في شركة عامة أو خاصة طالما أنها لا ترتدي برقعا يخفي وجهها. الطلاق أبغض الحلال. لكن العربي المطلق هو أيضا يستطيع أن يتزوج ثانية. وثالثة. ورابعة. ثم يذهب إلى البلدية، ليحصل على المكاسب ذاتها «للشمعات» الأربع اللواتي أضأن حياته مجددا.

في انعدام قدرة أئمة المساجد الآتين من أقصى الأرياف العربية، على التكيف مع الثقافة والتقاليد، تعلو مشاعر التعصب ضد المسلمين المهاجرين. بلغت المبالغة في الشكوى، إلى حد مطالبة الدبلوماسية العربية بالتدخل لنجدة الأئمة!

المسلمون المهاجرون لا يملكون الطاقة على ممارسة نقد الذات. بعض هؤلاء الأئمة يتحملون مسؤولية كبرى. في حض مراهقي وشباب الضواحي على عدم الاندماج، مستغلين فقرهم. بؤسهم. قلة حظهم من التعليم والوعي. بعض الأئمة يتحملون مسؤولية أكبر عن تجنيد المهاجرين للانتحار بالأحزمة الناسفة، في مجاهل باكستان. أفغانستان. اليمن. الصومال، إن لم يستطيعوا تفجيرها في وطنهم الجديد: أوروبا!

ليس كل عرب ومسلمي أوروبا أئمة للعزلة أو للعنف. هناك جيل عربي آخر. جيل من الشباب. أكثر وعيا. وثقافة. مثقفون. فنانون. طلبة. عمال. يكافحون من أجل تقديم قضايا العرب، كقضايا إنسانية. بفضل هذا الجيل. ومع ديمقراطية التلفزة، بات الرأي العام الأوروبي، لا سيما الفرنسي، أكثر فهما. ودعما للقضية الفلسطينية. لعروبة الضفة وغزة. أكثر إدانة لإسرائيل والاستيطان. أشد إلحاحا على حكومات أوروبا. فقد حان الوقت لإنشاء دولة فلسطينية، قبل أن يصبح الوطن الفلسطيني منفى للعروبة في وطنها.