مفهومان لليبرالية.. إيجابي وسلبي

TT

سوف أحشر أنفي في المناقشة السعودية - السعودية التي جرت مؤخرا حول الليبرالية. ومعلوم أنها اندلعت بعد أن ألقى الدكتور الغذامي محاضرة في جامعة الملك سعود بالرياض يهاجم فيها الليبرالية وينتصر لخصومها. أعترف بأني لم أطلع عليها إلا من خلال التعليقات التي كتبت عنها وأولها مقالة مشاري الذايدي هنا في «الشرق الأوسط». ثم أرسل لي احد الأصدقاء إيميلا مفصلا عنها. وهنا أرد على تساؤلاته بشكل غير مباشر ولا شخصي لكي يطلع الجمهور العام على رأيي في الموضوع. لماذا اتخذت محاضرة الدكتور الغذامي كل هذه الأصداء والأبعاد على عكس المحاضرات الجامعية الأخرى التي تمر دون أن يلتفت إليها أحد؟ لأنها ضربت على الوتر الحساس وجرحت في العمق كل أولئك الذين كانوا يعتمدون عليه وعلى هيبته النقدية والفكرية لدعم معسكر التقدم والتنوير والحداثة. لقد خابت آمال التحديثيين والليبراليين وربما فوجئوا وصعقوا لهذا الانقلاب الذي طرأ على مواقف الناقد السعودي الشهير. والكثيرون تساءلوا: كيف يكون الأستاذ الغذامي ليبراليا وحداثيا وهو يشن هجوما ساحقا على الليبرالية والليبراليين؟ أليست الليبرالية هي جوهر الحداثة؟ ربما كان يقصد الليبرالية المتطرفة أو المنحرفة التي لا تناسب مجتمعاتنا. نقول ذلك ونحن نعلم أن الليبرالية ككل المصطلحات والعقائد تحتمل معنيين: الأول إيجابي والثاني سلبي. والمعنى الإيجابي لها هو أنها فلسفة الحرية المسؤولة والأخلاقية. إنها تعني احترام التعددية الفكرية والاختلاف في الرأي وحرية الصحافة والمناقشة الحرة والديمقراطية السياسية. وكذلك تعني الفهم العقلاني المستنير والمتسامح للدين. يضاف إلى ذلك احترام المرأة والاعتراف بمواهبها وقدراتها على تطوير المجتمع إلى جانب الرجل. وكلها قيم إيجابية بامتياز. ويا ليتنا نستطيع تحقيقها في المدى المنظور. فالمجتمعات المتقدمة لم تتوصل إليها إلا بعد جهد جهيد. ولكن هناك معنى سلبي متطرف وأكاد أقول «كاريكاتوري» لليبرالية. فقد انعكس معناها مؤخرا في الغرب وأصبحت تعني العولمة الرأسمالية المتوحشة والجشعة التي لا تشبع. إنها تعني الحرية بلا حدود ولا قيود: أي التحلل من كل القيم الأخلاقية وتبني النزعات المادية الإلحادية الصرفة إن لم أقل البورنوغرافية. ولكن هذا تشويه لفكرة الليبرالية. كل العقائد في التاريخ، بما فيها الأكثر قداسة، تعرضت للانحراف والتشويه على يد بعض الأتباع المتطرفين. فإذا كان الأستاذ الغذامي يهاجم هذا المفهوم الخاطئ لليبرالية فأنا معه. أما إذا كان يقصد المفهوم الأول أو يخلط بينه وبين الثاني فيصعب علينا موافقته. شخصيا لا أعتقد بأن الإخوة الليبراليين في المملكة العربية السعودية ينتمون إلى هذا الاتجاه الثاني السطحي والمنحرف. على العكس فإنهم يتبنون المفهوم الإيجابي لليبرالية ويريدون الجمع بين العلم والإيمان المستنير. إنهم يحاولون بلورة تفسير عقلاني منفتح لتراثنا الإسلامي العريق. وبالتالي فينبغي التضامن معهم والشد على أيديهم كما يفعل الأستاذ شاكر النابلسي لا الهجوم عليهم وإضعاف مواقعهم. هذه نقطة.

أما النقطة الثانية فهي أن الليبراليين العرب لم ينتظروا أميركا وأوامرها لكي ينتهجوا الخط الليبرالي الحضاري ويدعوا إلى تجديد التراث وبرامج التعليم! منذ أيام طه حسين والعقاد وأحمد لطفي السيد وعشرات غيرهم وحتى أيام الجابري وحسن حنفي وأركون ونصر حامد أبي زيد وسواهم والمثقفون العرب يدعون إلى التغيير والتجديد والتلاؤم مع الحداثة والعصر. إنها مشكلة الجميع من ليبراليين أو إسلاميين مستنيرين منذ أكثر من قرن ونصف القرن. هناك إسلاميون كبار مستنيرون وليبراليون. أصلا الحضارة الإسلامية نفسها كانت ليبرالية، عقلانية، إنسانية النزعة، إبان العصر الذهبي. وبالتالي فنحن سبقنا الغرب إلى الليبرالية واحترام حق الفرد في الحرية الفكرية والنقدية، باعتبار أن النقد هو الوسيلة الأساسية للتطوير والتقدم إلى الأمام. فبدون نقد لا تطور ولا تحلحل. كل المجتمعات التي تحجرت فكريا جمدت وتوقفت عن التطور وهُمشت وأصبحت عالة على نفسها وعلى الجماعة الدولية بأسرها. نعم نحن الذين سبقنا الغرب إلى الليبرالية. وهو الذي أخذها عنا وطورها ونماها حتى شكل كل هذه الحضارة التي نراها. وبالتالي فيمكن أن نقول مع بعض الديماغوجية: هذي بضاعتنا ردت إلينا..

أخيرا ينبغي الاعتراف بأن المعركة بين الليبراليين المستنيرين والتقليديين المتحجرين ليست متكافئة على الإطلاق. فالاتجاه الثاني في العالم العربي والإسلامي كله لا يزال أقوى بكثير عددا وعدة. وربما لهذا السبب انضم إليه الأستاذ الغذامي لحماية نفسه ومواقعه الخلفية إذا جاز التعبير. فالإنسان مع القوي الذي يزمجر ويخيف لا مع الضعيف الخائف الذي لم يرسخ أقدامه في الساحة بعد. ولكن كل الحركات الفكرية تبتدئ ضعيفة وأقلية ثم تنمو وتترعرع إذا كانت تمثل حركة التاريخ أو تمشي في اتجاهها. ووضع المثقفين العرب اليوم مثل وضع الليبراليين الإنجليز والفرنسيين والألمان إبان القرنين السابع عشر والثامن عشر. ففي ذلك الوقت كان الأصوليون المسيحيون يرعبون فلاسفة التنوير ويخيفونهم حقا. انظر ما حصل لديكارت وغاليليو وجون لوك وسبينوزا وفولتير وروسو وكانط وعشرات غيرهم. معظمهم كان منفيا أو ملاحقا أو مرعوبا لسبب أو لآخر.. وبالتالي فسوف يدفع المثقفون السعوديون والعرب الثمن باهظا لكي تتحقق الحرية الفكرية يوما ما على الأرض العربية الإسلامية.