تونس الحمرا!

TT

مظاهرات وغضب وصخب ودماء وموت.. وأين؟! في تونس. خبر مفزع وغريب. الشباب التونسي انفجر غاضبا وتظاهر مقهورا مطالبا بحقه في العمل والتوظيف، أو كما يسمونه في تونس «التشغيل»، أحدهم لم يتحمل وضعه العاطل فأشعل النيران في نفسه، وغضب معه الناس، وانطلقت الشرارة وتتواصل للأسبوع الثاني! اللافت في الموضوع أن هذا يحدث في تونس، وهي التي كانت إلى وقت قريب تلقب بالنمر الأفريقي على المتوسط، نظرا لوضعها الاقتصادي الجيد؛ فمعدلات الدخل للفرد الواحد في تونس سنويا تفوق الـ3500 دولار، وهو الأعلى بين الدول العربية والأفريقية (غير النفطية). ولقد اهتمت تونس منذ زمن بالتعليم والتدريب، وكذلك بالتقنية الحديثة، وكانت المكتب الخلفي التدريبي للكثير من الدول الأوروبية، مثل فرنسا وبلجيكا وإيطاليا وهولندا، وكذلك تألقت زراعيا، وخصوصا في تصدير الزيتون والتمور، وكذلك كان لها تألق وحضور لافت ومميز على الخريطة السياحية، وتحديدا نجحت في التركيز على سياح وسط أوروبا من ألمانيا والنمسا وسويسرا، وانتشرت على أثر ذلك الفنادق والمنتجعات والمطاعم وشركات تأجير السيارات، وبالتالي أتيحت فرص التوظيف للشباب، ولكن مع ذلك استمر معدل البطالة العام عند الـ13 في المائة، وهو رقم عال نوعا ما، ولعل السبب الأساسي في ذلك كون تونس استمرت تتبع مفهوم الاقتصاد المركزي، بمعنى أن الدولة تسيطر على الاقتصاد بشكل كبير، وأن مجهودات الخصخصة لا تزال خجولة، ومشاركات القطاع الخاص تبقى متواضعة للغاية، والتفاوت التنموي ما بين مدينة وأخرى ومنطقة وأخرى بات واضحا ومثار شكوى وتذمر، مما ولد الإحساس بوجود مفاضلة وأولويات لصالح فئات ومناطق على حساب أخرى، الأمر الذي ولد لدى البعض الإحساس بالظلم وفجر الغضب الذي حصل. مفاجأة الذي حدث هي أنه جاء في تونس.. تونس المكان الذي يضرب به المثل في الأمن والسلم الاجتماعي الظاهر، اتضح أن هناك خللا في السوية الاجتماعية، وأن «ظاهر» الرخاء الاقتصادي لم يطل المناطق كافة ولا الشرائح كافة.

تونس بلد مستقر، بعيد عن التطرف، ونسبة التعليم فيه ممتازة، ومهارة أبنائه وكفاءاتهم مضرب للأمثال، ومع ذلك هناك احتياج حقيقي ومطلوب بتحرير الكثير من القيود والأنظمة التي كانت مصدرا للشكوى بالنسبة إلى المستثمر الأجنبي في تونس، مما حرم التوانسة من الكثير من الفرص الواعدة، وبالتالي الكثير من فرص التوظيف لهم. والشكوى هذه ليست بجديدة، فهي معروفة منذ وقت طويل للمسؤولين في تونس، وقد يكون الآن الوقت المناسب لبدء التعامل معها بشكل مغاير، وأخذها بشكل جدي وحاسم، وإصلاح ما هو مطلوب. كانت دائما تونس رمزا للاستقرار وأيقونة التطور الاقتصادي، ولكن الأحداث الأخيرة هذه قد تكون بمثابة جرس إيقاظ عالي الصوت للاستماع إلى الشكاوى والمطالب والنظر والتمعن جيدا فيهما، لأن الغضب والدم اللذين كانا سمة المشهد الأخير لم يحصلا من فراغ وبلا سبب.

[email protected]