انفصال الحد الأدنى

TT

عاش جيلنا ينتظر الوحدة العربية الشاملة في دولة كبرى من المحيط الثائر إلى الخليج الهادر؛ وعندما كان يطرح أحد طرحا متواضعا للعمل من أجل دولة عربية «فيدرالية» كان ذلك يعد استسلاما للإمبريالية واتفاقية «سايكس بيكو» «المشؤومة». ولكن الأيام والأعوام والعقود مرت، وتراجعت فكرة الوحدة العربية إلى «العمل العربي المشترك»، وبعدها آل الحال إلى العمل من أجل اتفاق «الحد الأدنى». ولكن الأحوال ظلت على تدهورها، ولم تعد القضية وحدة العرب؛ بل بقاء الدولة العربية على حالها؛ وبات الخوف حادا بعد أن قدمت جماعة حماس الفلسطينية اختراعا جديدا، وهو أنه يمكن تحقيق الانفصال حتى قبل قيام الدولة من الأصل.

الآن تواضعت الأحلام كثيرا، وأصبحت المسألة أن يتم الانفصال بأقل قدر ممكن من الألم؛ وبعد أن سار السودان على طريق الفيدرالية، والبحث في الكونفدرالية، فإن الجماعة العربية باتت على استعداد للعمل من أجل الحد الأدنى في أن يكون انفصال جنوب السودان بأقل الآلام الممكنة. فقد قرر البرلمان العربي الانتقالي المشاركة في استفتاء حق تقرير مصير جنوب السودان، وذلك بعد خلاف حاد بين أعضائه؛ إذ رأى كثير من الأعضاء أن المشاركة تعني أن يكون البرلمان شاهدا على انفصال جزء من الأرض العربية، وهو ما يتناقض مع مبادئه وأهدافه الرامية إلى تحقيق الوحدة العربية. في المقابل، رأى كثير من الأعضاء ضرورة أن يحترم البرلمان العربي تعهداته، حيث سبق أن وقع اتفاقية مع مفوضية الاستفتاء في جنوب السودان لمراقبة هذا الاستفتاء المصيري. كما شهدت العاصمة السودانية الخرطوم قمة جمعت الرؤساء؛ المصري حسني مبارك، والليبي معمر القذافي، والموريتاني محمد ولد عبد العزيز، مع مضيفهم الرئيس السوداني عمر البشير، ورئيس حكومة جنوب السودان سلفا كير ميارديت، من أجل تحقيق الهدف ذاته، وهو أن يكون الانفصال بآلام عند حدها الأدنى. وسرعان ما دخل السيد عمرو موسى على الخط لكي يحاول هو الآخر تفعيل «العمل العربي المشترك»، ولكن هذه المرة من أجل الوقوف على سير تنفيذ اتفاقية السلام الشامل، وترتيبات عملية الاستفتاء على حق تقرير مصير الجنوب، وسيزور ولايات دارفور للوقوف على مشروعات الجامعة هناك فلعلها لا تنفصل هي الأخرى.

تواضعت الأحلام إذن، ولم يعد هناك أحد يعترض على انفصال الجنوب السوداني رغم كثير من الأوهام التي جرى نشرها طوال السنوات الست الماضية من أن الجميع سوف يعمل على أن تكون الوحدة جاذبة؛ ولما كان لا يوجد لدى أحد ما يجعل الوحدة كذلك، فقد نزل السقف لكي لا يكون الانفصال داميا، من خلال توسيع المجالات التعاونية بين شمال السودان وجنوبه أيا كانت النتائج المترتبة على الاستفتاء، فضلا على تقديم تنازلات متبادلة في ما يخص «القضايا العالقة» بما في ذلك ترتيبات ما بعد الاستفتاء المرتبطة بالمياه، والموارد الطبيعية، والنفط، والجنسية، والمواطنة، والديون الخارجية، والمعاهدات الدولية، والعملة الوطنية، وتسريع جهود إحلال السلام في أزمة دارفور، واستفتاء منطقة أبيي الغنية بالنفط، وترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، بحيث تكون هناك علاقة عضوية بين أقاليم السودان كافة، ونصبح إزاء «انفصال توافقي سلمي» وليس «انفصالا كاملا».

الكلمات هنا أشبه بكلمات الأطباء عندما يعلمون أن أحوال المريض ليست على ما يرام؛ فعمليات الانفصال لها دائما آلامها الخاصة، ولا يوجد، على الأقل في الدول النامية، حالات للانفصال الهادئ أو «المخملي»؛ فكل من طرفي «الطلاق» سوف يكون عليه أن يواجه قرارات صعبة سوف يحاول أن يجعل الطرف الآخر يدفع ثمنها. ولما كان المجتمع الدولي ليس على استعداد لدفع أكثر من تكاليف الإغاثة، فإن المرجح أن تدفع الفاتورة من دماء غالية. وحتى الآن، فإن التوجه في الجنوب في اتجاه قومية متطرفة، أما في الشمال حيث لا يوجد من هو على استعداد لتحمل مسؤولية الانفصال، فإن «المشروع الإسلامي» والتطرف فيه سوف يكون البديل. فوفقا لما تشير إليه مفوضية الإغاثة والعودة الطوعية في حكومة جنوب السودان، فإن الأسابيع الماضية شهدت عودة نحو 55 ألف جنوبي من الشمال إلى ديارهم الأصلية، علاوة على أن أكثر من 62 ألفا آخرين يتوقع عودتهم خلال الأيام المقبلة. كما بدأ الجنوبيون يدرسون اسم دولتهم الوليدة، وإن انقسموا في هذا الاتجاه، وكأن قدر السودان مستقبلا هو الانقسام، فبرز تيار من الجنوبيين المتعصبين يدعو إلى اختيار اسم جديد ليس فيه إشارة من قريب أو بعيد للسودان مثل «دولة النيل» أو «كوش» أو «أماتونق»، أما التيار الآخر فينادي بإبقاء ما يرمز إلى السودان مثل «السودان الجديد» و«جنوب السودان». وثمة ترجيحات بأن يتم الاستقرار على اسم «جنوب السودان»، باعتباره حلا توفيقيا يرضي جميع الأطراف.

ولكن يبدو أن المشكلة الحقيقية في الفترة المقبلة سوف تكون في شمال السودان وليس في جنوبه، أو ربما ستكون أكثر حدة من جنوبه.. فهناك إدراك حاكم لتفكير الرئيس السوداني عمر البشير بشأن محورية دور الأطراف الخارجية في دفع إقليم جنوب السودان نحو الانفصال، وهو ما أشار إليه في حفلة تخريج دفعة الضباط «37» في كلية القادة والأركان المشتركة في أم درمان مؤخرا، حيث اتهم «جهات أجنبية تعمل على تشجيع الجنوبيين على الانفصال في وقت تتوحد فيه أوروبا في مختلف المجالات»، دون إيلاء أهمية للاعتبارات الداخلية التي ساهمت في حسم هذا الخيار. كما أعلن الرئيس عمر البشير في كلمة ألقاها على أنصاره خلال تجمع في مدينة «القضارف» بمناسبة الاحتفال بالعيد القومي للحصاد أنه «في حال انفصال الجنوب سنقوم بتعديل الدستور، لذلك لا مجال للحديث عن التعدد الثقافي والإثني، وأن الشريعة الإسلامية ستكون المصدر الرئيسي للتشريع، وسيكون الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وستكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة». وأضاف البشير أن «انفصال الجنوب لن يكون نهاية الدنيا على الرغم من أنه يعني انقطاع جزء من جسم الوطن، فالدولة قبل إنتاج البترول كانت ماضية في خططها وبرامجها؛ فإذا ذهب بترول الجنوب، فهناك بترول في الشمال أكثر، وفترته أطول».

المشهد هكذا غير مريح حتى بالنسبة للحد الأدنى، فهناك دولة جديدة تريد أن تخلق لنفسها هوية ووجودا ومكانة لا تحدث إلا بتحدي الدولة السابقة، وهناك دولة قامت منذ عام 1956 وتريد أن تهرب من تحديد مسؤولية الانفصال وفتح الباب لانفصال آخرين. والوصفة دائما جاهزة: العدو الخارجي، والأصابع الصهيونية، والدين الإسلامي الذي يشهر سيفا في وجه الطغاة من الخارج والداخل معا. ولكن السيوف لا تقيم أوطانا أو دولا لفترة طويلة، وساعتها سوف يكون تفاهم الحد الأدنى قد وصل إلى نقطة الاختبار لدى الشمال والجنوب معا.