الواقعية السياسية.. والأخلاق الكيسنجرية

TT

لا أدري كم عدد أولئك الذين قرأوا السجال الذي دار بين هنري كيسنجر، والكاتب مايكل غيرسون بجريدة «الواشنطن بوست» (المقالان تُرجما ونُشرا في «الشرق الأوسط» في 23 و25 ديسمبر الحالي – المحرر) حول ثنائية «الواقعية» و«المثالية» في عالم السياسية. ففي وقت يكثر الحديث فيه حول وثائق «ويكيليكس»، فإن تسريبا من نوع آخر ظهر للسطح الشهر الماضي، ربما فاق في أهميته - لدى نقاد كيسنجر بالتحديد - تسرب تقارير السفارات الأميركية. لقد أثار نشر مكتبة الرئيس نيكسون مؤخرا لتسجيلات الرئيس مع وزير خارجيته الأشهر - كيسنجر - استياء البعض، وفرحة البعض الآخر لما احتوته من عبارات غير عادية فاه بها رائد المذهب «الواقعي» في السياسة الخارجية الأميركية. إذا كنت من المهتمين بالشؤون السياسية في المنطقة، فإن ما قيل وما تلاه من جدل لا بد أن يحظيا باهتمامك.

في المكتب البيضاوي (مارس (آذار) 1973)، قال وزير الخارجية للرئيس تعليقا على مطالبات لبعض أعضاء الكونغرس بالضغط على الاتحاد السوفياتي من أجل السماح لليهود الروس بالهجرة: «لنواجه الأمر، هجرة اليهود من الاتحاد السوفياتي ليست هدفا للسياسة الأميركية، وحتى لو قادوا اليهود إلى غرف الغاز في الاتحاد السوفياتي، فإن ذلك ليس شأنا أميركيا، ربما كان ذلك شأنا إنسانيا».

يبدو من العبارة وما تلاها من حديث أن وزير الخارجية - ذا الأصول اليهودية - لا يبالي بأن يساق يهود الاتحاد السوفياتي إلى غرف الغاز إذا كانت المصلحة الأميركية تقتضي السكوت عن ذلك. بإزاء الكشف عن هذا الحديث بادر كيسنجر إلى الاعتذار مشددا على أن كلامه يجب أن يؤخذ في السياق التاريخي والوظيفي الذي قيل فيه لا على أنه الموقف الذي يؤمن به عميد الخارجية الأميركية.

رد الفعل جاء على مستويين؛ عام ونخبوي. سأترك الجانب العام في الموضوع لأن اعتذار كيسنجر، وخروج بعض أهم الأسماء اليهودية في نيويورك وإسرائيل للدفاع عن تاريخه، يخففان من حدة الاتهام له بعدم مراعاة المشاعر الإنسانية لضحايا المحرقة. بيد أن المثير حقا هو الجدل النخبوي الذي فجرته تلك العبارة.

لطالما كان هناك جدل في أوروبا منذ القرن السابع عشر، وفي الولايات المتحدة خلال القرن العشرين حول ثنائية «الواقعية» و«المثالية» في عالم السياسة. ثلاثة اتجاهات فلسفية عالجت مسألة الأخلاق في العلاقات الدولية: أولا المتشككون، الذين يعتبرون أنه لا أخلاق في السياسة لأنها باختصار حرب الجميع ضد الجميع. وثانيا، منطق الدولة، الذي يعتبر أن سيادة الدولة وضمان مصالحها هو الخيار الأخلاقي المبرر في عالم لا قوة قاهرة فيه تفرض ما هو أخلاقي أو غير أخلاقي. وأخيرا، هناك الكوزموبوليتانيون، الذين يعتقدون أن بالإمكان بناء نظام عالمي تسوده روح القانون بين الدول، بحيث تصان حقوق الأفراد في عالم أخلاقي تسوده المساواة.

هنري كيسنجر ينتمي إلى المدرسة «الواقعية الكلاسيكية»، التي من بين ما تؤمن به هو مبدأ «توازن القوى»، بحيث إن المهم تحقيق أكبر قدر من المصالح بالوسائل الممكنة، التي تقود في النهاية إلى ردع الخصم عبر تحقيق توازن هو مزيج من التخويف للخصوم والتحالف مع خصوم الخصوم. لهذا؛ فإن «الواقعية الكلاسيكية» لا تكترث لطبيعة الأنظمة السياسية بقدر اهتمامها بموقف تلك الأنظمة من المصالح الأميركية، أي الأولوية للسياسات على حساب الآيديولوجيا. هناك عبارة شهيرة لكيسنجر تلخص هذا الموقف، قالها عام 1969: «نحن سنحكم على الدول، بما في ذلك الدول الشيوعية، بناء على تصرفاتها لا على آيديولوجياتها في الداخل».

هناك ثلاث مدارس أخرى غير «الواقعية الكلاسيكية» لها تأثير متفاوت على السياسة الخارجية الأميركية، وهي: «الويلسونية»، و«الجاكسونية»، و«المحافظون الجدد». ليس هنا محل الحديث عن كل هذه الاتجاهات، ولكن ما يجمع بين المدارس الثلاث الأخيرة على خلاف «الواقعية» هو كونها «مثالية» في رؤيتها لعلاقة الأخلاق بالسياسة. «الويلسونية»، «والمحافظون الجدد»، رغم خلافهما، تجتمعان على أن كل ما يحدث داخل الدولة هو مهم بالقدر ذاته. ولهذا؛ فإن «المحافظين الجدد» - على سبيل المثال - «مثاليون» لأنهم تبنوا مبدأ «تغيير النظام» لإيمانهم بأن أميركا دولة ديمقراطية لا يمكن أن تكون على وفاق مع نظام ديكتاتوري مثل نظام صدام حسين.

أعود إلى مقالة مايكل غيرسون، حيث استشهد الكاتب بعبارة كيسنجر عن اليهود كدليل على «لا أخلاقية» الواقعيين، مبرهنا على خطورة إقصاء الأخلاق عن عالم السياسة. كيسنجر كتب مقالة احتجاجية على غيرسون موضحا أن عبارات أخذت من سياقها لا ينبغي أن تسيء إلى سجل «الواقعية السياسية» التي مكنت أميركا من احتواء الاتحاد السوفياتي، وتجنيب ملايين البشر غلواء حرب نووية أممية.

لمن لا يعرف غيرسون فإنه عمل ككاتب خطابات للرئيس بوش (2001 - 2006)، ومناصر بارز لبعض أفكار المحافظين الجدد، حتى عدته مجلة «تايم» كأحد أهم الشخصيات المؤثرة في التيار الإنجيلي.

برأيي، إن غيرسون مخطئ في توصيف الدور الذي تلعبه المدرسة «الواقعية» في السياسة لسببين: أولا، الواقعيون ليسوا بالضرورة قوما بلا أخلاق مهمتهم فقط تحقيق المصالح المادية، بل هم غالبا قوم عمليون يأتون إلى واقع بالغ التعقيد فيتجنبون الوقوع في وهم تغيير العالم ويكتفون بتجنب الأزمات، والتواكل على القدر الداخلي للدول. ثانيا، أن العالم عاش بعد سقوط الشيوعية موجة ثالثة للديمقراطية - كما يصفها هنتنغتون - وانبعاثا لدور حقوق الإنسان وثقافة المجتمع المدني، ولكن العقد الأخير أثبت أن تجاوز الاختلافات الحضارية والدينية ليس بالأمر الهين. تأمل فقط كيف غير الإرهاب وجه العالم، بحيث لم تعد الدول - أو الشعوب - تثق في بعضها البعض.

في الشرق الأوسط، يمكن تتبع جدل «الواقعية» و«المثالية» في الممارسة السياسية. فمن جهة أولئك الذين في السلطة هم في الظاهر «مثاليون» يعلنون ليل نهار التزامهم بمثل وقيم تبدو في كثير من الأحيان متناقضة ومتداخلة، ولكنهم في الخفاء يمارسون «الواقعية» بقدر كبير من المغالاة، بحيث يحسبون كل موقف خارجي جيدا لمصلحة النظام الحاكم. أيضا، هناك مستوى آخر لهذا الجدل، فمن حيث الممارسة تبدو الأنظمة غالبا «واقعية»، بينما المعارضة دائما «مثالية». إقليميا، هناك دول «واقعية»، تبني سياساتها غالبا بناء على مواقف الدول لا على شعاراتها الآيديولوجية، وهناك دول «بين بين» تمارس «واقعية» - باطنية - ولكنها لا تتورع عن توجيه سياساتها وجهة «مثالية»، خذ دول الممانعة كإيران - مثلا - تدعم حزب الله وحركة حماس لأسباب «مثالية»، ولكنها تمارس «واقعية» مفرطة صوب امتلاك سلاح نووي.

ماذا عن الكتاب والمثقفين العرب؟ هم في الغالب «مثاليون»، ولهذا يخطأون في قراءة سياسة شرق أوسطية كلها معتمدة على الممارسة «الواقعية».

وأخيرا، ربما كان هذا المقال «مثاليا» أكثر مما ينبغي في قراءة هذا الجدل «الواقعي»!