وقول الحق حق

TT

مثلما أخذ العراقيون يبكون على العهد الملكي، أراهم قد يبدأون قريبا في البكاء على العهد الصدامي. لا أدري إن كنت رائدا في الموضوع بمقالتي السابقة. بيد أني سأضيف إليها هذا اليوم بهذه الحكاية من أيام فاتت. سيستغرب القراء من قولي (والعراق غارق في الفساد الآن) إن صدام حسين شن في السبعينات حملة ضارية وموفقة على الفساد ربما لم يشهد مثلها أي بلد عربي.

أروي هذه الحكاية العائلية التي مست عائلتنا. كان أخي مؤيد ضابطا في الشرطة وأحيل للتقاعد قبل أن تكتمل خدماته التقاعدية ببضعة أشهر. بذلت عائلتنا كل ما استطاعت من جهود ونفوذ لتصحيح أمر هذه الأشهر القليلة والحصول على تقاعد له وفشلت. اضطر لكسب العيش كمقاول. تعاقد على تنفيذ مشروع في البصرة. أثناء سفرة إلى بغداد، التمس منه المهندس ممثل الحكومة مصاحبته في سيارته. أهلا وسهلا. طلب منه في الطريق أن يسلفه مائة دينار لحاجة ألمت به. سلمه المبلغ فقال له المهندس: «أرجوك لا تقل شيئا عن ذلك للناس». أجابه: «على إيش؟ الناس كلها تأخذ».

بعد وصوله بيته بساعات قليلة داهمته قوات الأمن واعتقلته بتهمة «إرشاء» المهندس المقيم. تبين في المعتقل أن المهندس نصب فخا له وكان يسجل ما جرى. أسمعوه الشريط فدافع عن نفسه بقوله إنها لم تكن رشوة وإنما سلفة طلبها صديق بلسانه. سألوه: ولكن ماذا كنت تقصد بأن الناس كلها تأخذ؟ من هؤلاء الذين يأخذون؟ أعطنا أسماءهم. قال: هذه عبارة دارجة على اللسان لا تعني شيئا بالضبط. أطلقوا سراحه بعد أن حذروه. كانوا يتربصون لكل من يدفع أو يقبض رشوة بنفس قوة التربص لكل من يتآمر على صدام.

هكذا أصبحت الرشوة والسرقة شيئا مرعبا في السبعينات. أصبح تداولها نادرا جدا. بالطبع تدهورت الأمور هنا أيضا بعد غزو إيران ووقوع العراق في الهاوية. فراح هو وأهله وزمرته يعطون الناس قدوة في نهب أموال الرعية فتركوا لنا هذا التراث الفاسد.

كان نظام الانتداب البريطاني وبقاء مستشارين إنجليز في سائر مرافق الدولة حتى بعد الاستقلال من أهم العوامل التي أعطت العراق هذه الميزة والسمعة، وهي قلة الرشوة والفساد فيه عند مقارنته ببقية دول المنطقة. ثبت ذلك وثائقيا بعد انقلاب 14 تموز عندما اتضح للجميع أن نوري السعيد وزملاءه عاشوا وماتوا «مفاليس» يتصدق الناس على أراملهم. وفي السبعينات، أمعن صدام حسين في تعميق هذه الروح واستعمل يده الضاربة والقاسية في هذه الرسالة. أتذكر ذلك وأتساءل لماذا عجزت هذه الحكومات المتتالية منذ 2003 في اقتباس شيء من أساليب صدام في استئصال الفساد؟ ألأنهم جزء منه وضالعون فيه؟

ما رويته عن أخي مؤيد نتفة صغيرة من حكايات عديدة أصبحت أسمعها في هذه الأيام. لا شأن للعراقيين في هذه الأيام وهم يتسكعون في مقاهي لندن ضائعين غير سرد أمثال هذه الحكايات عن «أيام فاتت» وربما لن تعود. أستمع لقصصهم فأتذكر كلمة فولتير: «الأحرار عندهم تاريخ. العبيد عندهم حكايات!».