المنعطف الذي تمر به القضية الفلسطينية يقتضي الأخذ بالطريقة «المانديلية»

TT

لأن هناك شبها كبيرا بين آخر مراحل نظام الـ«أبرتهايد» العنصري في جنوب أفريقيا وبين هذا النظام الإسرائيلي الذي يقوده أسوأ تحالف عرفته إسرائيل منذ إعلان إنشائها في عام 1948، فإن محمود عباس (أبو مازن) باجتماعه مع عشرات من الإسرائيليين من مختلف التوجهات والأحزاب قبل فترة ربما أراد أن يلعب دور القائد الجنوب أفريقي التاريخي نيلسون مانديلا الذي حتى بينما كان في السجن عرف كيف يلتقط اللحظة التاريخية ويوظف التعاطف العالمي مع قضية شعبه والتعجيل بالانتصار الذي تحقق رغم أنوف العنصريين البيض بانهيار نظام لا يشبهه إلا نظام تحالف بنيامين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان.

قال (أبو مازن) خلال هذا الاجتماع المشار إليه الذي ضم نحو مائة ناشط من منتسبي تحالف السلام الفلسطيني – الإسرائيلي، إن الفلسطينيين يتمسكون بخيار السلام والاستقرار وقال أيضا إن السلام أهم من الاستيطان وإنه على الحكومة الإسرائيلية أن تغلب منطق السلام وإنهاء الصراع على منطق الاستيطان وتغيير الحقائق على الأرض بالقوة، وقد رد عليه رئيس حزب العمل الأسبق عميرام ميتسناع قائلا: «أريد أن أقول لك إن غالبية الإسرائيليين يدركون أنه سيتم تقسيم مدينة القدس في نهاية المطاف وأنه ستقام دولة فلسطينية على حدود قريبة من حدود عام 1967».

ومع أن خطوة (أبو مازن) هذه، التي كان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قد أقدم على مثلها، لكن دون أي نتيجة تذكر، نظرا لأن الظروف الدولية تجاه أزمة الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية لم تكن قد نضجت بعد، قد جاءت كـ«اقتحام» سياسي شجاع للمجتمع الإسرائيلي المختطف بمعظمه من قبل أكثر الاتجاهات الإسرائيلية تطرفا ويمينية وكتلبية واعية لمتطلبات هذا التحول التاريخي العالمي تجاه الصراع في هذه المنطقة، إلا أن ما ينقصها حتى تكون تكرارا ناجحا لما كان فعله نيلسون مانديلا، عندما التقط اللحظة التاريخية فحقق لشعبه ذلك الانتصار العظيم الذي تحقق، هو أن يكون على رأس النظام في إسرائيل شخص مثل فريدريك دي كلارك الذي عرف بأنه مهندس إنهاء نظام الفصل العنصري الـ«أبرتهايد» في جنوب أفريقيا.

إن هذه مسألة مهمة وإن هناك مسألة أخرى قد تكون أهم منها وهي أن نيلسون مانديلا، حتى عندما كان سجينا وراء القضبان، كان كل قرار الأفارقة السود من أبناء شعبه بيده وكان حزبه، حزب المؤتمر، الذي قاد الحركة التحررية الجنوب أفريقية على قلب رجل واحد هو قلبه وكل هذا بينما تعاني الحركة التحررية الوطنية الفلسطينية منذ إنشائها وحتى الآن من تعددية مربكة قوامها أكثر من ثلاثة عشر تنظيما معظمها تشكل اختراقات استخبارية للكثير من الأنظمة العربية وغير العربية ولعل ما زاد في الطين بلة أن حركة «حماس» قد انطلقت في الوقت الخطأ، بعد أكثر من عشرين عاما من انطلاقة الثورة المعاصرة التي انطلقت في عام 1965، فأضافت شللا رئيسيا جديدا إلى شلل الحالة الفلسطينية السابق وكانت الطامة الكبرى عندما قامت هذه المنظمة، التي غزت الوضع الفلسطيني بدعوات الولي الفقيه وبالأموال الإيرانية، بانقلابها المشؤوم الذي وضع قطاع غزة في وجه الضفة الغربية وأعطى الإسرائيليين المبرر الذي يريدونه ليواجهوا الضغط العالمي ضدهم بالقول إنهم لا يعرفون أي طرف فلسطيني يفاوضونه.

لكن ومع ذلك، فإن انفتاح (أبو مازن) على الداخل الإسرائيلي، الذي أهمله منذ عام 1999 بعد الاستعانة به بالتنسيق مع إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون لإسقاط بنيامين نتنياهو هذا نفسه وإسقاط حكومته وتحالفه، يعد خطوة لا يجوز التقليل من أهميتها وبخاصة إذا ما أتبعت بسلسلة من الخطوات المبرمجة والمدروسة وبالاتفاق مع الولايات المتحدة ومنظمات المجتمع المدني فيها وفي دول الاتحاد الأوروبي والعالم بأسره.

إن أهمية هذه الخطوة وكذلك التحرك المنظم المفترض الذي يجب إشراك العالم الرسمي والشعبي به تنبع من أن هناك تحولا عالميا مضادا لهذه الحكومة الإسرائيلية اليمينية والمتطرفة التي تشبه حكومة آخر العنصريين البيض في جنوب أفريقيا الذي هو بيتر ويليم بوثا وأن هناك تحولا عالميا رسميا وشعبيا مساندا لقضية فلسطين وللشعب الفلسطيني ولإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة المنشودة على حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967 ومن ضمنها القدس الشرقية التي يجب أن تكون عاصمة هذه الدولة الفلسطينية المستقلة المنشودة.

كان بإمكان نيلسون مانديلا، حتى بينما كان سجينا خلف القضبان، أن يستغل ظروف الحرب الباردة وواقع صراع المعسكرات وأن يستجيب لبعض من كانوا الأكثر تشددا في قيادة حزبه وينتقل بالحركة الوطنية التحررية الجنوب أفريقية إلى ثورة مسلحة عارمة، لكنه لم يقع في هذا الخطأ الاستراتيجي القاتل، أولا لأنه باتساع بصيرته أدرك مبكرا أنه إذا وضع ثورته السلمية بعد تحويلها إلى ثورة مسلحة على مسرح الصراع الذي كان محتدما بين الغرب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة والشرق الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي، فإنه سيفقد جزءا رئيسيا من العالم ومساندته وأنه بالتالي سيدمر هذه القضية بالانحياز إلى قطب دولي ضد القطب الآخر وهذا للأسف ما كانت فعلته الثورة الفلسطينية منذ انطلاقها وحتى خروج منظمة التحرير من بيروت في عام 1982.

هذا أولا، أما ثانيا فإن نيلسون مانديلا باتساع أفقه واستراتيجية نظرته قد أدرك أن اللجوء إلى السلاح، بينما التعاطف العالمي مع قضية شعبه بات في ذروته، بالإضافة إلى أنه سيفقده وسيفقد قضيته الجزء الأكبر من هذا التعاطف، فإنه سيحول جنوب أفريقيا إلى أرض محروقة وأنه سيدمر دولة متطورة وغنية وأنه سيفقد هذه الدولة مواطنيها البيض بكل خبراتهم وعلى غرار ما حصل في زيمبابوي التي هي الآن مضرب مثل في تدمير الذات واستبدال النظام العنصري بنظام ديكتاتوري أرعن ومتخلف أعاد البلاد إلى عصر المجاعات والفوضى والعنف الاجتماعي الأهوج.

وهنا وحتى لا يقع البعض في الالتباس وأيضا حتى لا يسارع البعض لتحريف المقصود عن مساره، فإنه لا بد من التأكيد على أنه غير مطلوب من (أبو مازن) ولا من غيره ولا من الحركة الوطنية الفلسطينية فعل ما فعله نيلسون مانديلا بالحفاظ على المواطنين البيض وخبراتهم وإمكاناتهم في جنوب أفريقيا فهناك فرق هائل وبون شاسع بين الحالة في فلسطين والحالة الجنوب أفريقية، لكن المطلوب هو أن يتمسك الرئيس الفلسطيني بكل هذا الانحياز العالمي، الرسمي والشعبي، للقضية الفلسطينية وأن يحرص كل الحرص على ألا ينساق وراء تجار الشعارات الفارغة الذين بادروا إلى مطالبته والضغط عليه، متسلحين بالدعم الإيراني وبدعوات الولي الفقيه، باستبدال خيار السلام بخيار «المقاومة» وبإدارة الظهر لكل ما في هذا الكون باستثناء طهران ومحمود أحمدي نجاد وحزب الله وما يسمى «فسطاط الممانعة»... وأي ممانعة.

إنه على (أبو مازن) ألا يخضع لتجار الشعارات الفارغة حتى من داخل «فتح» نفسها وإن عليه أن يقطف ثمرة هذا التحول العالمي تجاه القضية الفلسطينية كما كان المهاتما غاندي قد قطف ثمار اللحظة التاريخية في نهاية أربعينات القرن الماضي وكما كان نيلسون مانديلا قد فعل ما فعله المهاتما غاندي في نهاية ثمانينات القرن الماضي، ولهذا فإنه لا بد من المزيد من الانفتاح المنظم على الوضع الإسرائيلي الداخلي وإنه لا بد من استثمار الحالة العالمية الشعبية والرسمية بحركة واعية مسنودة بموقف عربي موحد بقدر الإمكان تجاه الأمم المتحدة وتجاه مجلس الأمن وقبل هذا تجاه استدراج المزيد من دول العالم وفي مقدمتها الدول الأوروبية للاعتراف بالدولة الفلسطينية المنشودة على حدود الرابع من يونيو عام 1967.