الإصلاح والثوابت في المغرب

TT

في خطاب الأحزاب السياسية الكبرى بالمغرب، في الآونة الأخيرة، عودة إلى حديث الإصلاح بقوة. فهذا الأمين العام لأحد تلك الأحزاب يتحدث عن وجوب اعتماد «جيل جديد من الإصلاحات» في المغرب. وهذا الكاتب العام يتحدث، في أحد الجموع السياسية مؤخرا، حديثا يفيد بضرورة سلوك إصلاح عميق يشمل الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني على السواء. وقبل أيام قليلة أيضا طرح زعيم سياسي كبير وأمين عام سابق لحزب سياسي عريق فكرة «الحاجة إلى حركة إصلاحية جديدة» والقصد، بطبيعة الأمر، حاجة المغرب إلى ذلك. والحق أن خطاب الإصلاح الشامل يشغل من المجالس العربية اليوم مكان الصدارة، وبالجملة فلا مبالغة في الحديث عن عودة عامة وشاملة لموضوع الإصلاح في مختلف الأصعدة والمجالات. إذن فإن هذه العودة إلى حديث الإصلاح في خطاب الأحزاب السياسية المغربية لا يوجد تفسيره في جملة الظروف الوطنية فحسب، بل وفي مجمل الظروف الإقليمية العربية والعالمية. وحيث إن خطاب الإصلاح يتسم بجملة خصائص، فقد أشرنا في الأسبوع الماضي إلى البعض منها، فنحن نود الوقوف اليوم عند أكثرها أهمية، وهي تلك التي تتعلق باقتضاء الإصلاح وجود «الثوابت»، إذ لا إصلاح دون إقرار الثوابت ووعيها من حيث هي كذلك. وفي عبارة أخرى فإن حديث «الإصلاح»، في كل فكر إصلاحي أو حركة تصف نفسها بالإصلاحية، يعني العودة إلى الأصول، وبالتالي يحمل على استحضار ما يرى ذلك الفكر أو تلك الحركة الإصلاحيين أنه «ثوابت» ليس يكون للإصلاح معنى في الابتعاد عنها، وكذا في عدم تمثلها بالقدر الكافي من الوضوح.

وحديث الإصلاح، في المجتمع السياسي المغربي، يستوجب استحضار الثوابت الكبرى في الوجود المغربي وإقرارها من حيث هي كذلك، توخيا للوضوح المطلوب، ومن ثم يكون السؤال المنطقي والضروري، في حديثنا اليوم، على النحو التالي: ما الثوابت الكبرى التي نجد أنها تحكم الوجود السياسي والاجتماعي والثقافي في المغرب؟

الجواب عندنا، على نحو ما يستمد من تاريخ المغرب ونظامه معا، أن ثوابت الوجود المغربي ثلاثة: الإسلام، والملكية الدستورية، والتضافر بين المكونين الأمازيغي والعربي. وضرورة الوضوح التي نتحدث عنها تستوجب وقفة تذكر ومراجعة لكل من المفاهيم الثلاثة المذكورة.

يردد المغاربة، تقليديا، حين الحديث عن الإسلام، بيتا شعريا في «منظومة ابن عاشر» التي تضبط طرائق الدين والتدين في المغرب:

في عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد السالك

ومغزى البيت المذكور أن المغرب بلد سني مكوناه الأساسيان هما الأشعرية، من جهة المذهب الكلامي، أي من حيث تنظيم الاعتقاد على قواعد معلومة، والمذهب المالكي في الفقه. والقول في مالكية المغاربة وأشعريتهم يستدعي الدخول في تفريعات لا يحتملها المقام، غير أننا نسلك سبيل الإيجاز، مع خطورته، فنقول إن البيت المذكور آنفا يفيد، متى قرئ في ضوء التاريخ والفكر في المغرب، انتساب البلد إلى العالم الإسلامي السني انتسابا قويا يضرب بجذوره بعيدا في التاريخ، فلا مكان لفكر سواه. قد يلزم أن نضيف إلى ما سبق، أن الإشارة إلى «طريقة الجنيد» إنما هي من باب التكملة أو، كما يقول الفقهاء، إنها شرط كمال لا شرط صحة. وبعبارة أخرى، فطريقة الجنيد لا تفيد البتة وجود الطرقية، بل ربما كان الواجب أن نقول إنها تقصيها ولا تقبلها، ما دام المطلب إخلاص النية لله تعالى، ومن ثم فلا حاجة إلى شيخ ولا إلى مشيخة ولا حاجة إلى ترديد أوراد يمنع الشيخ المريدين من قول غيرها، كما هي الحال في الطرقية.

يعلمنا الفقه الدستوري أن الملكيات لا تخرج عن نوعين اثنين: ملكيات مطلقة، ليس يحد من إطلاق السلطة في يد الملك شيء، وملكيات مقيدة بدستور تلتزم به وترى في الانتساب إليه قوة ومنعة وتعبيرا عن الديمقراطية. ويعلمنا الفكر السياسي المعاصر، وكذا تعلمنا اختيارات الشعوب، أن مضمون «الدستورية» يتباين بتباين الملكيات والدول التي ترتضيها نظاما في الحكم. الملكية الدستورية ليست واحدة في اليابان وتايلاند وفي بريطانيا وإسبانيا ودول أوروبا الشمالية وفي المغرب. الملكية الدستورية في المغرب، كما يرتضيها المغاربة، تقضي بأن الملك يملك ويحكم، فلا تصور لملك لا يحكم، غير أن المعنى العميق للملكية الدستورية يستوجب قيام الحياة السياسية السليمة، وقوامها الأحزاب السياسية التي تتنافس في البرامج وتقوم بوظيفة سياسية خطيرة هي وظيفة تنظيم الوعي السياسي وتأطير المواطنين، والدستور المغربي ينص على ذلك، مثلما يفرد فصلا صريحا ينص على «نظام الحزب الوحيد ممنوع في المغرب». وبالتالي فالملكية الدستورية في المغرب تستدعي ما تستدعيه الأنظمة الديمقراطية كلها، وتستوجب ما تستوجبه الممارسة السياسية السليمة.

أما الثابت الثالث في البنية المغربية فهو وجود العنصرين العربي والأمازيغي. والتاريخ المغربي برمته برهان على التضافر بين المكونين من جانب أول، وعلى التلاحم بينهما معا وبين الدين الإسلامي والملكية من جانب ثان، وهذه الأخيرة ظلت تقوم بدور اللحمة أو الإسمنت. ثم إن التاريخ المغربي يكشف عن حقيقتين اثنتين في هذا الصدد. أولى الحقيقتين أن في المغرب قبائل أمازيغية قد تعربت، ولا غرابة في ذلك، فذاك منطق التاريخ ونتيجة التفاعل بين المكونين، وفي ذلك أيضا تكذيب لخرافة العرق الصافي التي روجتها الآيديولوجية الاستعمارية في القرن الـ19 خاصة. وثانيتهما أن «بلاد البربر» - كما كان الاستعمار الفرنسي يسميها - حفظت على المغرب لغته العربية ودينه الإسلامي، بل يجب أن نعلم أن كبار علماء الشريعة في المغرب كانوا من أصول أمازيغية، كما أن المكتبات العظمى التي تختزن المتون الكبرى في اللغة والفقه والعقيدة والتصوف توجد في البلاد التي كان الاستعمار يلحق بها النعت السابق قوله.

صفوة القول إن حديث الإصلاح، من حيث هو اقتضاء للعودة إلى الثوابت، ومساءلتها بغية إعادة تفعليها، في المشروع الإصلاحي يستوجب، في برامج الأحزاب السياسية المغربية، استحضار كل من الإسلام والملكية الدستورية والصلة النوعية بين المكونين العربي والأمازيغي. تلك، بالضرورة، هي البداية، وثمة تكمن الروافد الحقيقية لكل إصلاح وكل حركة إصلاحية تطمح في أن يكون لها من النجاح نصيب.