دروس في الحياة الحزبية

TT

تمخضت انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في الولايات المتحدة عن فوز حزبي للجمهوريين، لكن إذا أنصتنا بإمعان أكبر للناخبين واطلعنا على استطلاعات الرأي ربما نلحظ توجها آخر بدأ في الظهور بين الناخبين وهو السأم تجاه الحروب الحزبية في واشنطن، وحنين نحو التعاون بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري.

وقد كان الناخبون صرحاء في تعاملهم مع المسؤولين المنتخبين من كلا الجانبين، وكان فحوى رسالتهم إليهم أنه: عليكم وقف تناحركم لنيل ميزات سياسية، وعليكم بدلا من ذلك التعاون لخدمة صالح الأمة.

وسيكون من الضروري التعاون بين الحزبين لضمان الأمن الاقتصادي الأميركي عبر تقليص العجوزات طويلة المد والديون. ورغم أن السياسة الخارجية لم تشغل أذهان الأميركيين كثيرا هذا الخريف، أرى أن الأميركيين أيضا بحاجة لتعاون الحزبين للتصدي للتحديات التي يواجهها أمننا الوطني وأمن حلفائنا.

وجاء التصديق من قبل مجلس الشيوخ مؤخرا على معاهدة ستارت الجديدة، التي تطلبت تأييدا من الديمقراطيين والجمهوريين، بمثابة مثال مهم على بناء الإجماع. لكن تبقى الحاجة لبذل قدر أكبر بكثير من الجهود بالنظر لطول قائمة التحديات الأمنية التي تواجه بلادنا.

تواجه أميركا صراعات مستمرة في أفغانستان والعراق، بجانب سعي إيران لامتلاك أسلحة نووية وتفاقم التهديدات الإرهابية داخل باكستان المسلحة نوويا وتوسع تنظيم القاعدة لداخل مناطق جديدة واحتمالات وقوع مواجهة عسكرية بشبه الجزيرة الكورية وصعود الصين وعملية السلام المتعطلة في الشرق الأوسط.

ومع دراسة القادة الأميركيين لهذه التحديات، فإنهم قد يتذكرون أنه خلال الحرب الباردة اضطلعت الاعتبارات السياسية الداخلية بدور كبير في السياسة الخارجية مثلما الحال الآن. لكن كانت هناك سوابق أقرت حينذاك لتعزيز التعاون بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري تحمل في طياتها دروسا يمكن الاستفادة منها اليوم.

على امتداد ثمانينات القرن الماضي، خاض الجمهوريون والديمقراطيون معارك شعواء طويلة الأمد حول قضايا تتنوع بين المساعدات العسكرية وحكومة السلفادور ومتمردي الكونترا في نيكاراغوا. بالنسبة لتياري اليمين واليسار، تحول الوسط الأميركي لنقطة محورية على الصعيد السياسي المحلي.

بعد انتخاب جورج دبليو. بوش، رئيسا، تولد لدى كلينا اعتقاد بأنه إذا تمكنا من إقصاء الصراعات عن الساحة السياسية الداخلية، ستتوافر لدينا فرصة أفضل لتسويتها كقضايا تتعلق بالسياسة الخارجية. عام 1989، قبل يوم تنصيب الرئيس، اتصلت أنا والرئيس المنتخب بوش بالرئيس الديمقراطي لمجلس النواب جيم رايت لمحاولة التوصل لحل يرضي كلا الحزبين.

وسعيا للتأكيد على حسن نواياه، اختار بوش ديمقراطيا، وهو بيرنارد أرونسون، لمنصب مساعد وزير الخارجية للشؤون بين الأميركية. وقد سبق لأرونسون العمل في إدارة الرئيس كارتر وعمل مديرا لشؤون السياسات باللجنة الوطنية الديمقراطية.

خلال الأسابيع الأولى من عمر الإدارة الجديدة، بذلت أنا ومعاوني جهودا كبيرة للتفاوض على مدار قرابة ثلاثة أسابيع مع جميع الفرق داخل الكونغرس. وسعينا للتوصل لإجماع جديد حول أميركا الوسطى بحيث يسمح للولايات المتحدة بالتحدث بصوت واحد في المنطقة للمرة الأولى منذ عقد، وبالتالي يمكنها من حشد تأييد إقليمي ودولي.

كانت الفكرة الرئيسية لمقترحنا تتمثل في تعليق المساعدات العسكرية إلى متمردي الكونترا مع استمرار الدعم غير العسكري، وتعزيز وقف إطلاق النار ودعم الانتخابات في نيكاراغوا التي يشرف عليها المجتمع الدولي. تمت طمأنة معارضي متمردي الكونترا بأن تحظى الانتخابات بفرصة عادلة وأن تحترم الولايات المتحدة نتائجها إذا كان التصويت حرا وعادلا. وقدمت الوعود لمؤيدي متمردي الكونترا بأن جيش الكونترا سيتم الحفاظ عليه كضمان في حال عمد الساندينيون إلى تزوير الانتخابات.

في العديد من المرات خلال هذه المفاوضات حاولت أنا والعديد من مساعدي جاهدين أن نتجاوز عقبة الارتياب التي كانت تتنامى بين الديمقراطيين والجمهوريين في الكونغرس وبين الكونغرس والسلطة التنفيذية. لكننا تمكنا من النجاح في ذلك ففي 24 من مارس (آذار) عام 1989 انضم قادة مجلس الشيوخ والنواب إلى الرئيس بوش في البيت الأبيض لتوقيع اتفاق تعاون بشأن أميركا الوسطى. وفي امتثال آخر لهذا التعاون استعانت إدارتنا بالرئيس الأسبق جيمي كارتر الذب أسهم فيما بعد في إقناع دانييل أورتيغا بالقبول بهزيمته عشية الانتخابات.

في النهاية، كان جميع الموقعين على اتفاق التعاون الحزبي قادرين على الزعم بتحقيق النصر، فهزمت الديكتاتورية الساندينية وحل محلها حكومة ديمقراطية منتخبة وتم تسريح جيش الكونترا سلميا. تبع ذلك مفاوضات ناجحة لإنهاء الحرب في السلفادور. وقد تحولت أميركا الجنوبية إلى أول ساحة للحرب الباردة عملت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بقيادة ميخائيل غورباتشوف على حلها ممهدة الساحة من أجل مزيد من التقدم في العلاقات الأميركية - السوفياتية.

هناك قول مأثور يقول إنه إذا لم يكن الكونغرس مشاركا في إقرار سياسة جديدة فلا ينبغي على الرئيس توقع وجود الكونغرس حال مواجهة هذه السياسة لمصاعب. في هذه الحال، يقوم الرئيس، دون التخلي عن مبادئه، بالإنصات بصدق تام إلى المعارضة في الكونغرس محاولا التوصل إلى وفاق معها. وفي المقابل ترفض المعارضة إملاءات ناخبيها المتشددين وتقدم بدلا من ذلك الثقة والتعاون مع الرئيس الجديد.

أعتقد أن على كلا الحزبين أن يتخذ الموقف ذاته في وقت تواجه فيه الولايات المتحدة تحديات داخلية ودولية.

* وزير خارجية الولايات المتحدة بين عامي 1989 و1992.

* خدمة «نيويورك تايمز»