دونها

TT

لم أستطع في يوم أن أكون إنسانا منظما؛ ولم أحاول، لأنني أدرك سلفا عبث المحاولة. وكنت أشعر بالغبطة لأن ابني نقيضي في هذا الباب.. فقد كان يدون كل مساء ما عليه أن يفعل في اليوم التالي، على الرغم من تكرار اليوميات: الحمام، الفطور، إعادة استظهار، إلخ.. وكنت أسأله لماذا يريد أن يتذكر ما لا يمكن أن ينسى، فيجيب بكل جدية، لأن نهاره سوف يمتلئ بكميات هائلة من المعلومات والدروس والمتابعة.

اتكلت كثيرا على ذاكرتي، وها هي تتعب. وكنت في الماضي أشتري جميع وسائل الكتابة، حتى التي لا أستخدمها ولا علاقة لي بها، وعندما أصل إلى الأوراق التي كتب عليها: «دوّنها»، أعرض عنها، مع شعور عربي أبي بالإهانة، وآخر بأن الوقت لم يحن بعد للإقرار بوهن الجزء الاستذكاري من الدماغ. ولم أكن أعي أن العرب أضاعوا من آدابهم أضعاف ما حفظوا، لأنهم لم «يدوّنوا»، وتركوا بعض أجمل ما قيل في ذمة الرواة. وكان الراوية أحيانا صنو الشاعر، وقد كثر الشعراء وقل الرواة، وأشهرهم حماد، وخلف الأحمر، وعمرو بن العلاء. وما أسهل قول الشعر وما أصعب حفظ القصيدة خلف الأخرى، أو المعلقة تلو المعلقة، كما فعل حماد. وقيل، من باب المبالغة والمدح، إنه كان يحفظ ثلاثة آلاف قصيدة، وكان قادرا على أن ينشد سبعمائة منها، بدءا بـ«بانت سعاد».

لكن من يستطيع أن يأتمن رجلا واحدا وعقلا واحدا وذاكرة واحدة، على كل هذه التشابكات الشعرية؟ لذلك شكك كثيرون من معاصريه ولاحقيه، في قدرته وفي صدقه معا. وقال البعض إنه كان يخلط شعره بشعر سواه. وذكر المستشرقون أن خلف الأحمر كان أشد ضررا، لأن موهبته الشعرية كانت شديدة. وقد نسب إلى الشنفرى والنابغة الذبياني وامرئ القيس، شعرا لم يقولوه ولم يسمعوه ولم يعرفوا به.

ولا تشبه ذاكرة خلف الأحمر وموهبته الشعرية إلا ذاكرة وموهبة سميّه خلف الهذال الذي يلقي كل عام قصيدة «الجنادرية»، مرددا مئات الأبيات من شعره في جزالة لا تجارى. ولعل أن يحفظ المرء شعره لا يقل صعوبة عن حفظ شعر الآخرين. لا علاقة لمدى ما تحاول بمدى ما تحفظ.. والدليل أن في كل مسارح العالم شخصا مهمته أن يذكر الممثلين بنسوة أو هفوة. هكذا يذكرني بعض القراء الكرام أحيانا بأن جوليان أسانج أسترالي، وليس سويديا.. وإنما علاقته الوحيدة بالسويد هي ما نسب إليه من تهم بمحاولات الاغتصاب في بلاد السويديات، اللاتي لم يعرف عنهن في العصور المدونة، شدة المحافظة.