أميركا وإسرائيل.. هل هما في خدمة «جبهة الممانعة»؟

TT

نجدد الاستشهاد بـ«ظاهرة ويكيليكس» لاستنباط بعدين سياسيين:

1 - البعد الأول: أن للسياسة «ظاهرا وباطنا»، وأن الراسخين في «السذاجة» هم الذين يبنون قراراتهم ومواقفهم على ما يظهر على السطح من السياسة، أو ما يتعمد الإعلام السياسي إظهاره وتسويقه.. مثلا: كم مرة دقت طبول الحرب - الأميركية والإسرائيلية - على إيران؟.. مرات كثيرة، حتى تعجل أقوام فعينوا عامها، بل شهرها، بل أسبوعها! بيد أن هذه الحرب لم تقع.. لماذا؟. لأن «التفاهم السياسي الخفي» بين أميركا وإيران لم ينقطع قط، سواء حول العراق أو أفغانستان أو قضايا أخرى عديدة. وبالنسبة لأفغانستان قال الدبلوماسي الأميركي المخضرم «هولبروك»، والذي كان مكلفا بملف أفغانستان. قال - في مؤتمر عن أفغانستان في إيطاليا - : «إن لإيران دورا لا غنى لنا عنه في حاضر أفغانستان ومستقبلها وإن التنسيق بيننا يجب أن يستمر».. وها هي الأنباء والمعلومات تتكاثر وتتلاحق عن تعامل شركات أميركية مع إيران، على الرغم من الكلام العالي والساخن حول المقاطعة المشددة ضد إيران.. بل إن معلومات استراتيجية أميركية قد ظهرت لتؤكد التعاون الأميركي الإيراني في الحرب العراقية الإيرانية نفسها.. ومن هذه المعلومات: أن الأميركان بلغوا الإيرانيين بأن صدام حسين يستعد لشن حرب شاملة عليهم.. خلاصة هذا البعد السياسي: أن السياسة تظهر غير ما تبطن، وأن من عمش الرؤية، وغباوة القرار، وسوء الموقف: أن تبنى سياسة ما على ما هو ظاهر على السطح، أو على ما يريد الإعلام السياسي أن يظهره: ابتغاء أن يتلهى الناس بهذا الظاهر على السطح.

2 - البعد السياسي الثاني المستنبط من «ظاهرة ويكيليكس» هو: أن الأميركان يلومون جوليان أسانج - مؤسس هذا الموقع - على «تسريبات» تؤذي مصالحهم وأمنهم القومي.

وهذا اللوم يعبر عن تناقض سياسي وأخلاقي حاد.

فهؤلاء اللائمون يمارسون ذات الفعلة التي جرّموا بسببها موقع «ويكيليكس» والقائمين عليه.

فإذا كان الأمن القومي لأي دولة يتوجب أن يصان من الاختراقات والتسريبات التي تضر به، فإن هناك شأنا آخر يتوجب صيانته من التسريبات: حفاظا على دماء الناس وحياتهم وحقوقهم كافة. وهذا الشأن هو «الشأن القضائي»: المحلي أو الدولي.

لكن إسرائيل وأميركا توحلتا في انتهاك القضاء الدولي من خلال تسريبات تنال من هيبة هذا القضاء، ومن مصداقية أحكامه.

نعم. فإسرائيل وأميركا فعلتا هذه الفعلة - أكثر من مرة - فيما يتعلق بالمحكمة الدولية الخاصة بالتحقيق في اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق السيد رفيق الحريري - رحمه الله -.. فلقد سربتا أخبارا ومعلومات عن هذه المحكمة: لا يبدو فيها حرص على سلامة التحقيق، ولا على توافر الثقة بنتائجه.. ومن هذه التسريبات:

أ - ما نشرته المجلة الألمانية «دير شبيغل» - ذات الارتباطات المعروفة -، وهو نشر اتخذ صيغة التفاصيل مما يدل على أنه محض «كذب» واختلاق بمعنى أنه يتعذر على مطبوعة ما أن تحصل على تفاصيل ملف لا يزال في طور التحقيق القضائي، أو يدل على إرادة التشويش على المحكمة: سياسيا وإعلاميا: وفي كل شر.

ب - ما صرح به رئيس أركان حرب العدو الإسرائيلي (أشكنازي)، إذ تحدث عن القرار الظني حديث العليم بمضامينه، الخبير بتوقيته، الخبير بردود الفعل عليه.

ج - في الأسبوع الماضي صرح جون بولتون (المندوب الأميركي السابق في الأمم المتحدة) صرح بما يوحي بأنه عضو رئيس في المحكمة الدولية فقد قال: «إن القرار الاتهامي سيصدر قريبا. وسيتضمن اتهام شخصيات سورية وأفراد من حزب الله».

هل تخدم هذه التسريبات: سمعة المحكمة الدولية والثقة بأحكامها؟.. لا.. بالتوكيد.

هل تخدم هذه التسريبات العدالة المبتغاة التي تدين القتلة الفجرة المجرمين الذين اغتالوا هذا الرجل الكبير: رفيق الحريري؟.. لا.. بالتوكيد إذن، تخدم من هذه التسريبات؟

تخدم ما يسمى بـ«جبهة الممانعة» التي ما فتئت تشكك في المحكمة الدولية، وتصفها بـ«المسيسة» ذلك أن هذا الكم العجيب والمتلاحق من التسريبات: يعزز قرينة «التسييس»: بالاضطرار.

ولكن كيف يُعقل: أن تخدم أميركا وإسرائيل جبهة الممانعة على حين أن الظاهر السياسي يوحي بـ«العداء» بين الطرفين؟

هل هناك «تواطؤ خفي»؟

مع أن ليس في السياسة «يقينيات»، وأنها مسرح متسع للألعاب كافة.. مع استحضار هذا التقدير، فإننا نميل إلى ترجيح: أن خدمة جبهة الممانعة سببها «غباوة» السياستين: الأميركية والإسرائيلية، فكثيرا ما أحرجت السياسة الأميركية - مثلا - أصدقاءها، ليس لأنها قررت عداوتهم، وإنما لأنها تمارس سياسة بليدة: تضر أصدقاءها، كما تضرها هي نفسها.

ومن الأمثلة السافرة الدالة على هذا التخبط الغبي: الموقف الأميركي مما يسمى بـ«عملية السلام»: الفلسطينية الإسرائيلية.. لقد وعدت الإدارة الأميركية العرب بأنها ستضغط على إسرائيل فيما يتعلق بالمستوطنات، وفي مقابل هذا الوعد طلبت من العرب مهلة.. ثم مهلة ثانية.. ثم مهلة ثالثة.. ثم فاجأت العرب بأنها لا تستطيع أن تلجم السعار الإسرائيلي في قضم الأرض الفلسطينية - بما في ذلك القدس الشرقية - وكانت نتيجة هذه السياسة البليدة:

1 - تطويح عملية التسوية في أودية سحيقة، وترحيلها إلى أزمنة غير منظورة، وغير مضمونة المجيء.

2 - إحراجا شديدا، بل صاعقا للذين يسمون بـ«المعتدلين» في المنطقة.

3 - تعزيز منطق وموقف الذين يسمون «جبهة الممانعة» أو معسكر التطرف.

وإذا كنا لا نستطيع تغيير السياسات الأميركية، فإن «إنقاذ الذات»، أمر ممكن ومطلوب.. ومن عزائم الإنقاذ:

أ - الوعي بمخاطر سلبيات فعل الغير على أمننا مصالحنا. وهاهنا نفهم مبادرة الأستاذ فؤاد السنيورة إلى نقض موقف جون بولتون. فقد قال السنيورة: «إن هذه التصريحات مرفوضة لأنها تستهدف شق الساحة الداخلية ولا تخدم إلا مصلحة إسرائيل».

ب - إعادة الحسابات: بمزيد من استقلال الرؤية والقرار والموقف.

ج - لجم «الإعلام السياسي» الذي يقدم «الظاهر السياسي الخادع» على أنه حقائق يقينية، ولا سيما في علاقة هذا الطرف أو ذاك بالولايات المتحدة.