ثقافة المجالات

TT

تشجع الحياة الأكاديمية على التخصص والتفكير التقني، لكن هناك بعض الحقول الأكاديمية التي يكون فيها هذا الأمر أكثر من مجرد فلسفة. لكن الحقل الذي ينبغي أن يكون محل اهتمام كل فرد غالبا ما يكون هو الأمر الأكثر غموضا.

لكن الفلاسفة الشجعان، أحيانا، يقفزون خارج مساراتهم المهنية ليضيئوا مشاعل النور إلى عدد أكبر من الجماهير. وقد فعل هيوبرت دريفوس، من جامعة بيركلي، وشون كيلي دورانس، من جامعة هارفارد، هذا للتو، من خلال كتابهما الجديد «كل الأشياء لها بريق». وأخذ كل من دريفوس وكيلي جولة ذكية وواسعة عبر تاريخ الفلسفة الغربية. وتكمن أهمية كتابهما في الطريقة التي يضيء بها حياة اليوم وللنصيحة المثيرة للجدل حول كيف يمكن أن نحيا هذه الحياة.

وقد بدأ دريفوس وكيلي كتابهما بفكرة فيكو القديمة في أن كل عصر له عدساته الخاصة التي يرى الناس من خلالها هذا العالم. وفي العصور الوسطى، على سبيل المثال «كان كل ما في وسع الناس هو النظر إلى أنفسهم على أنهم محددون أو مخلوقون بواسطة الله». ويبدو أنهم كانوا يفترضون أن قدر الله يتحكم في جميع جوانب حياتهم بالطريقة نفسها التي تتحكم في قوانين الفيزياء في الكون.

وخلال القرون الماضية، عشنا في عصر العلمانية، وهذا لا يعني أن الناس لم يكونوا متدينين، بل إنه لم تكن هناك مجموعة مشتركة من القيم نقوم بقبول حقائقها غير قابلة للاختبار. وفي عالمنا الحالي، فإنه على الأفراد أن يصنعوا - أو يعثروا على - فهمهم الخاص.

وقد أدى افتراض دريفوس وكيلي هذا إلى حزن واسع الانتشار؛ لأن الأفراد عادة ما يكونون غير قادرين على صنع حياتهم من الألف إلى الياء؛ لذلك فإن الحياة الحديثة مليئة بمشاعر التردد والقلق. والناس غالبا ما يفتقدون الأسس التي يعتمدون عليها في اتخاذ قراراتهم الأكثر أهمية.

ويعاني دريفوس وكيلي ضيق الأفق المعتاد بين كامبريدج/ بيركلي. ويفترضان أنه لم يعد هناك من يعتقد الآن في الحقيقة الخالدة. ويكتبون وكأن أفضل من يعبر عن كل المشكلات الأخلاقية للولايات المتحدة هو الروائي ديفيد فوستر والاس. ولكنهما يشيران إلى شيء مهم عندما يقومان بوصف الطريقة - أكثر بكثير مما كانت عليه في العصور الماضية - التي نهضت بها الرياضة لملء الفراغ الروحي.

على الرغم من عدم استقرارهم روحيا، فإن الكثير من الناس يشعرون بسعادة كبيرة خلال اللحظات السحرية التي توفرها لهم الرياضة في كثير من الأحيان. ووصف كل من دريفوس وكيلي الحالة المزاجية والسعادة التي اجتاحت حشدا في استاد يانكي عندما ألقى لو جيهريج - الرجل الأكثر حظا على قيد الحياة - كلمته، أو الفرحة التي اجتاحت الحشود في استاد ويمبلدون عندما أنهى روجيه فيدرر واحدة من أعظم مبارياته.

وكتبا قائلين: إن أكثر الأشياء الحقيقية في الحياة تلك التي تأخذنا أكثر بشكل جيد. ويطلقان على هذه التجربة «السعادة». إننا نصل إلى حالة «السعادة» في الساحة الرياضية، في الاجتماعات السياسية الحاشدة أو حتى في لحظات سحرية من السعادة أثناء العمل أو السير عبر الطبيعة.

ويقول دريفوس وكيلي: إنه يجب أن يكون لدينا الشجاعة لا لنبحث عن بعض التفسير الوحدوي والاستبدادية للكون، بدلا من ذلك، ينبغي أن نعيش مدركين على السطح، ونقبل لحظات السعادة التي يمكن أن نشعر بها مثلا، أثناء حفل موسيقي أو أثناء المشاركة في نشاط هادف مثل صنع فنجان رائع من القهوة.

وعلينا ألا نتوقع أن تجمع هذه التجارب لتشكل «معنى متكاملا للحياة». وخبرات السعادة جماعية وغير متوافقة. وينبغي لنا أن نرسخ بدلا من ذلك روح الامتنان والإعجاب بالأمور الكثيرة الرائعة التي يمنحها لنا الكون.

ولست متأكدا من أن هذه الطريقة في الحياة ستكون مرضية لمعظم القراء. معظم الناس لديهم شعور قوي بوجود كائن أسمى فوقنا، ترتبط به الحقائق الأبدية، على الرغم من أنهما، دريفوس وكيلي، لا يعطياننا أساسا مقنعا نستطيع من خلاله التمييز بين حالة السعادة التي يشعر بها من يشارك في تظاهرة لنشطاء الحقوق المدنية وتلك التي كان يشعر بها المشاركون في تظاهرات النازية.

وربما يسهم دريفوس وكيلي في قلب أسلوب نظرتنا للعالم.. إن هناك روايات رسمية نتناقلها حول ثقافتنا، وتدور حول أن كل فرد هو ربان سفينته. لكن على الصعيد العملي، طوعا أو كرها، نعيش على نحو يتعارض مع هذه الرؤية الرسمية. وتتسم أنشط مؤسساتنا بطابع جماعي، ليست فردية أو دينية. وهي تسهم في خلق الانسياب الجماعي وبناء منشآت مثل استاد رياضي ومسرح موسيقي وتنظيم مسيرة سياسية ومسرح ومتحف ومطعم بارز. حتى الكنيسة غالبا ما تتعلق بالانسياب الجماعي أكثر من ارتباطها بالفكر الديني.

والملاحظ أن النشاطات التي تقابَل بالرفض باعتبارها مجرد تشتيت للانتباه هي في حقيقتها المحور المركزي. إن الحياة الحقيقية تدور في معظمها حول سلسلة من موجات الانسياب، وليس حول معنى واحد متناغم.

وبإمكاننا إما التمرد ضد هذا الجنوح السطحي، وإما أن نفعل مثل دريفوس وكيلي ونسير مع التيار، معترفين بحقيقة أن الحياة المستقلة أمر مستحيل، والتحول لمشاركين حساسين في موجات الانسياب الجماعي التي توفرها الحياة. ويوضح هذا الاختيارات القائمة أمامنا.

إن هذا الكتاب يحمل رفضا للفردية المفرطة التي سادت العقود الكثيرة الماضية، ويؤكد الحرية الروحانية. إنه مبشر بفلسفات المستقبل. إن ثقافتنا تحددها مجالات ومناطق، ولم تصل هذه الفكرة بعدُ لأسلوب تصورنا لأنفسنا.

* خدمة «نيويورك تايمز»