إصلاح الخطاب الصحافي

TT

أثارت ندوات مهرجان الإعلام العربي في القاهرة التي ينظمها قطاع الأخبار بالتلفزيون المصري قضايا صحافية مثيرة وعميقة وجدلا حول حلول، بعضها جديد لمشكلات قديمة، والآخر قديم لمشكلات جديدة.

تجاوزت الندوات التي أدارها رئيس القطاع، الزميل عبد اللطيف المناوي، نمط السنوات الماضية إلى أسلوب تناول الندوة لقضية على عدة محاور وكيفية تعامل الصحافة بكل أنواعها معها، مثل «ظاهرة الشعوذة والدجل ونشر التطرف في القنوات الدينية»؛ أو تخصيص ندوة الصحافة الرياضية إلى مسألة سيطرة رأس المال والذوق الفاسد لدى الصحافة الرياضية حول الحياد والتطرف في تغطيتها، وأداء الإعلام أثناء الانتخابات النيابية المصرية. وحظيت تسريبات «ويكيليكس» بمناقشات عميقة وما إذا كانت قد أدت إلى «سقوط الأقنعة» في المجتمعات ولدى الدوائر الصحافية؛ حيث طالب البعض بإنشاء موقع مماثل بالعربية. وهو أمر غير عملي، لسبب بسيط: نشر تسريبات تكشف أخطاء المسؤول ومحاولته لإخفائها في صحافة الديمقراطيات الغربية تؤدي لاستقالته قبل أو بعد استدعائه أمام لجنة برلمانية للتحقيق، وهو ما لا ينسحب على المسؤولين العرب.

كررت في الندوات المطالبة بالبحث عن تعبير غير «إعلام» لوصف الصحافة. ارتبط لفظ الإعلام في أذهان جيل المخضرمين بالبروباغندا، بهدف قلب الأكاذيب إلى حقائق وحشو أدمغة الناس بشعارات، تتحول إلى ثوابت قومية، سواء في ألمانيا النازية أو في روسيا الستالينية أو في عهد الدولة البوليسية التي بدأت مصر محاولة التخلص منها منذ ثلاثين عاما، وتستمر المحاولة، بصعوبة شديدة، بسبب مقاومة العقل الجماعي الباطن لشارع الصحافة للتغير والتطور. والسبب ربما أن الإعلام/البروباغندا بمفهوم الستينات والدولة البوليسية يمثل منطقة آمنة للعقل الصحافي الجماعي وبتغير الأخطاء بالتجديد وتطوير المهنية، يخطو هذا العقل خارج منطقة الأمان إلى محيط بلا خرائط uncharted waters باحتمالات مصادفة ألغام غير ظاهرة مما يتناقض مع المفهوم المصري الشائع للأمن الفردي «خليك ماشي جنب الحيط».

ولعل هذا يفسر غياب الاجتهاد العلني (حسب علمي) في محاولة تصحيح الترجمة وتغيير اسم الصحافة الشاملة من الكلمة غير الدقيقة (الإعلام) إلى تعبير أكثر تحديدا يعكس مفهوم الواقع الذي تحمله الكلمة الجديدة: مفهوم العلاقة بين منتج السلعة الصحافية (الصحافي/محرر نشرة الأخبار/المصور الصحافي)، ومستهلكها (القارئ/المستمع/المتفرج/زائر الموقع) بما في ذلك الناقل أو الوسيط (المذيع/مقدم البرنامج/مخرج ومصمم الصحيفة/المجلة/الموقع) ووسيلة النقل أي والوسط الذي تتحرك فيه هذه السلعة مثل الصحف/الإذاعة/التلفزيون/الإنترنت.

واعتمد التركيز على كلمة الوسط، بمعنى المحيط أو الفضاء أو الحقل.

فالإعلام كلمة ظهرت مع «وزارة الإعلام» التي تطورت عن اختراع جديد في الخمسينات هو «وزارة الثقافة والإرشاد القومي» (في شمولية ولاية الفقيه تعرف بوزارة الإرشاد الديني)، وهي تعني حملة «توعية» أو توجيه بقصد تطويع الرأي العام. موجهة مثل الكلام أو الإعلان لبيع أو ترويج سلعة أو فكرة أو نظرية أو عقيدة. ولذا فكلمة «إعلام» ليست فقط ترجمة غير دقيقة وإنما أيضا غير صحيحة لكلمة Media وهي باللاتينية اسم الجمع من المفرد Medium وسيط، وأيضا وسط بمعنى محيط تتفاعل فيه الحركة الصحافية medium of communication وتصبح الصحافة هنا وسيط تواصل لكل أنواع الصحافة المذكورة؛ وأخيرا أضيف إليها، الصحافة الإلكترونية الجديدة؛ التي ستسقط عنها الصفة بالتقادم، ولذا سموها الموازية والبعض بالبديلة (وفي رأينا خطأ) وتشمل وسط medium الإنترنت بعنكبوتيته كـ«الفيس بوك» والمدونات والمواقع غير التابعة للصحافة الكلاسيكية، وآخرها Twitter «تويتر» وسأسميها الخاطفة أو المقتصرة (لا أعرف لها اسما بالعربية وقد تكون الزقزقة أو الطقطقة) وهي مقابل NEWS IN BRIEF أي المختصرة في الصحافة المطبوعة. لكنها لحظية وانطباعية، وحروف كل «تغريدة» أو «زقزقة» أو «طقطوقة» لا تزيد على 140 حرفا؛ وقد تحكي «الخبر» (مع التحفظ على الكلمة هنا) في بضع زقزقات، لكن قد تدخل بين مسلسل زقزقتك بضع زقزقات أخرى من مجموعة شبكتك، فيزداد خبرك/تعليقك غموضا. أما إذا كانت الزقزقات المتداخلة تعليقات على الموضوع نفسه الذي أثار غريزتك الصحافية، يصبح الأمر كارثة من ناحية المضمون.

بالطبع أثيرت هذه القضية في بعض ندوات مهرجان القاهرة للإعلام، حيث التسمية، خاصة تسمية الجديدة بالموازية أو الإنترنتية أو الإلكترونية، وإن كنت أطلقت اسما لم يعجب الشباب المتحمسين لها وهي صحافة «معلهش». السبب أن هناك إجماعا من المخضرمين العواجيز على نقصان مسؤوليتها في التأكد من مصادر الخبر والحيادية ووضع الخبر في سياقه التاريخي والسياسي الزمني (كتسريبات «ويكيليكس» التي كانت موضوع ندوة كاملة) أي لا تخضع للشروط الصارمة التي رسمتها التقاليد الصحافية قبل أن يرتضي الصحافي المهني وضعها أمام أعين الناس وأسماعهم. صحافة المدونات والزقزقة همّ أصحابها الأول سرعة النقل والانتشار، ولذا «فمعلهش» من ناحية التأكد من المصادر وبقية الشروط.

عدد من محاور ندوات الزميل المناوي الأربع، وضعت مرآة المسؤولية أمام أعين الصحافيين، وأتاح حوار المخضرمين والشباب فرصة إثارة قضايا عميقة وارتفع مستواها كثيرا بنضج الدراسة الأكاديمية مقارنة بأولى المهرجانات قبل سنوات. والندوات كانت فرصتي لتجميع بضعة اجتهادات نجمت عن ملاحظاتي للحالة الصحافية العربية (وأقصد المحيط أو الوسط اللغوي وليس الانتماء العرقي أو الجغرافي)، واستكمالها مما ما خرجت به من ملاحظات من محاور الندوات لأشارك الأفكار مع قارئ «الشرق الأوسط» العزيز.

مثلا ما زلت غير مقتنع بتحمس الأغلبية لاستصدار مشروع ميثاق صحافي بمشاركة نخبة من الصحافيين والمسؤولين (ترددت عبارات عن مسؤولية وزارات الإعلام) للارتفاع بمستوى الأداء المهني والأخلاقي خاصة للفضائيات. وأنا، كأحد عواجيز الصحافة، لا أتحمس أبدا لمثل هذه القيود والمواثيق لأنها في النهاية شكل من أشكال الرقابة؛ بل وذهاب عدد معتبر من المشاركين إلى المطالبة بإغلاق قنوات «الشعوذة» الدينية وفتاوى من لا يعلمون. ورغم قناعتي التامة (بعد تأكدي بأدلة وتحليلات) بالدور السلبي الذي تلعبه هذه القنوات في صبغ الخطاب الديني بالعنف، ودورها التخريبي في عقول الشباب، فلا يمكن أن أوافق على مبدأ الرقابة أو إغلاق قناة. الأفضل للغيورين على الدين الحنيف والمهتمين بإصلاح الخطاب الديني تأسيس أوساطهم الصحافية (جمع وسيط) كقنوات لبث بضاعتهم الصحافية والتلفزيونية بمصداقية، تولد من تزاوج المضمون الجيد بالشكل الجذاب للمشاهد مع التأكد من وجود حاجة في سوق الاستهلاك الإعلامي للبضاعة؛ إذ لا يمكنك مثلا بيع معطف صوف ثقيل واحد لسكان غابة استوائية يحتاجون مكيفات هواء. فمكافحة تخريب قنوات الشعوذة لا تكون بإغلاقها، وإنما منافستها إلى حد الإفلاس بتوفير بضاعة صحافية أكثر جاذبية شكلا، وأكثر نفعا مضمونا للمشاهدين.