لماذا تتفكك الدول؟

TT

على هامش الحديث عن تفكك الدولة السودانية الحديثة، يميل البعض إلى لوم «المؤامرة» الدولية، بوصفها أسهل التبريرات وأفضلها في تجنب لوم ومراجعة الذات. نحن في منطقة لم تعتد مراجعة الذات أبدا، والماضي لدينا مقدس دائما، وبالتالي فإن أي تعامل نقدي معه يستثير من النقد الكثيرَ، لأنه يتهم في الغالب بإثارة الفتنة والمشاعر. وفي الحقيقة، إن الخائفين الدائمين من المراجعة هم أصحاب السلطة، والفتنة بالنسبة إليهم هي أي شيء قد يتحدى مقولاتهم ومنطقهم. ولكن أولئك الذين يفضلون «المؤامرة» الدولية كتبرير، لا يقولون لنا كيف يمكن لتلك المؤامرة أن تفكك مجتمعا متجانسا ويرفض التفكك. إن بذور هذا التفكك قائمة أصلا، وما نسميه نحن المؤامرة الدولية هو وجود مصالح لدول كبرى في دعم التفكك أو في قبوله أو في عدم الاعتراض عليه. مؤخرا تحدثت الـ«نيويورك تايمز» في افتتاحيتها، عن خطر أن يمضي الكرد في العراق إلى الانفصال، ووصلت إلى حد حث المسؤولين الأميركيين على إيصال رسالة إلى الكرد مفادها أن أي انفصال أحادي أو ضم أحادي لكركوك، سيعني نهاية الدعم الأميركي لهم. إذن، إذا كان هذا كلام صحيفة تعتبر من أكثر الصحف نفوذا وقربا من الطبقة السياسية الأميركية، فمعنى ذلك أن هناك مؤامرة دولية لمنع تفكك العراق، إذا أردنا أن نجاري أتباع نظرية المؤامرة.

المؤامرة الدولية في العقل العربي، هي أن تتفق مصالح قوى خارجية على تحقيق هدف معين، وليست هنالك مشكلة في هذا التعريف، ولكن إن قبلنا به علينا أن نتذكر أن معظم الدول العربية اليوم قد تشكلت بمؤامرة دولية، وأن الإمبراطورية العثمانية تفككت بمؤامرة دولية، وأن الحفاظ على وحدة الكثير من دولنا، التي تستعر فيها النزاعات والأحقاد والضغائن، هو مؤامرة دولية أيضا. بمعنى أنه دائما كانت وستكون هناك أطراف خارجية لديها مصالح قد تلتقي أو تفارق مصالحنا، وهي قد تستثمر إشكالياتنا وصراعاتنا، ولكن من النادر أن تكون تلك القوى قادرة على فرض خيار معين علينا إن لم نكن نحن جاهزين لهذا الخيار. هل للغرب مصلحة بتجزؤ السودان؟ ربما، ولكن ذلك ليس سببا كافيا للإجابة عن السؤال: لماذا سيتجزأ السودان، ولماذا معظم الكرد يتمنون، في قرارة أنفسهم، أن ينفصلوا عن العراق وتركيا وإيران وسورية، فبعد كل شيء أليسوا أيضا قومية واحدة تشتكي من «مؤامرة دولية» أبقتها مفككة؟!

بالطبع، كما أن الكثير من أصحاب نظرية المؤامرة الكرد يتجاهلون حقيقة أن الصراعات الكردية - الكردية كانت أحد أهم الأسباب التي حالت دون ظهور حركة قومية كردية موحدة، وأن البريطانيين استثمروا الصراع بين الجماعات والعشائر الكردية والأغوات والفلاحين، لمنع ظهور كتلة سياسية كردية موحدة، وكما أن نظام البعث وظف بعض العشائر الكردية في ضرب الحركة المتمردة المسلحة هناك، فإن الكثير من أصحاب النظرية نفسها من العرب يتجاهلون أن انقساماتنا الاجتماعية المستندة إلى المصالح والهوية الفرعية، وفشلنا في وضع أطر سياسية ومؤسساتية وثقافية ناجحة في استيعابها، هي التي تضع بذور التفكك الذي قد يصادف أنه يلتقي مع مصالح قوة أو قوى خارجية معينة، وقد يصادف أنه يتعارض مع تلك المصالح. فعندما مالت القوى الخارجية إلى إبقاء العراق موحدا بحدوده الراهنة، كان القوميون الكرد يلعنون المؤامرة الدولية التي فرضت عليهم أن يكونوا أقلية في دولة غالبية سكانها من العرب، وعندما فرضت القوى الخارجية نفسها المنطقة الآمنة التي مهدت لانفصال كردي فعلي بعد عام 1991 صار العرب يلعنون المؤامرة الدولية التي تريد تجزئة العراق!

عندما عرّف ماكس فيبر الدولة بأنها «مجتمع بشري يدعي بنجاح احتكار الاستخدام الشرعي للقوة المادية في إقليم معين»، فإنه أشار إلى عنصرين رئيسيين لبقاء الدولة؛ الأول أن تكون هي المحتكرة لاستخدام القوة في إقليمها، والثاني أن ينظر إلى هذا الاستخدام بوصفه شرعيا. والشرعية هنا تعني أن تنجح الدولة في إقناع مواطنيها بأنها «دولتهم»، وبالتالي بأن لها الحق في أن تفرض القانون. وعندما تفشل الدولة في تحقيق هذا الإقناع ولا ينظر إليها المواطنون بوصفها «دولتهم»، فإنها تصبح مجردة من «الشرعية» ويغدو ممكنا تحديها من قبل آخرين لا يرون لديها شرعية تمثيلهم، وفي الكثير من الحالات في منطقتنا فإن الدولة بفقدانها للشرعية تلجأ إلى القوة المادية العارية والقمع ليس لتحقيق الإقناع، بل لفرض الخضوع. وهي قد تنجح في ذلك طالما كانت الظروف المحيطة، ولا سيما «القوى الخارجية»، لا تمانع أو تدعم هذا القمع، ولكن حالما تتغير ميول القوى الخارجية الكبرى، فإن القمع يغدو غير مجد وتحديه أكثر يسرا.

عندما دخلت القوات الأميركية للعراق عام 2003 من دون مواجهة مقاومة شعبية لما يمكن اعتباره احتلالا أجنبيا، كان السبب الرئيسي لذلك هو أن الدولة في العراق كانت قد فقدت أي شرعية وأصبحت مجرد قوة عارية، وسهل الإطاحة بها بمجيء قوة مادية أكبر. الدول تفشل أو تتفكك إذا ظلت حكوماتها ترى في القوة وسيلة وحيدة للحفاظ عليها، وإذا فشلت في أن تكسب الشرعية وتقنع الناس بأنها دولتهم.