هل أزمة المياه حقيقة أم مبالغة؟

TT

ماذا تفعل عبوات العصائر السعودية على رفوف البقالات في لندن؟ يبدو أن البلد الصحراوي يقدم المرطبات لبلاد الأنهار والأمطار!

كلما قرأت عن الحرب الخفية في أفريقيا حول مياه النيل، أو تحرشات إسرائيل بتحويل روافد نهر الأردن، أشعر بوجل، أنا التي أسكن الرياض، مركز الصحراء، لا أرضها حظية بالأنهار ولا سماؤها تعرف الديم!

هذا ولا يزال الكثيرون يظنون أن الجزيرة العربية تطفو فوق أنهار من المياه الجوفية، وأننا وقتما نقرر أن نستخرج هذه المياه ليس علينا سوى الحفر بالفأس، أو ربما بالملعقة، حيث المياه الدانية. هذا غير صحيح، المياه الأرضية في تناقص مستمر لأنها غير متجددة تستهلك ولا تعوض، كما أنها تغوص أكثر في أعماق تستعصي على الوصول أو يصبح الوصول إليها غير مجد اقتصاديا، لذلك توجهت الحكومة بقوة إلى الأطراف، حيث السواحل ومنصات أبراج تحلية المياه لسد الحاجة إلى المياه العذبة.

في السعودية لا تقف تكلفة المياه عند تحليتها، بل توصيلها إلى المساحة الواسعة من البلاد وداخل القرى النائية والمرتفعات. لذلك فمن الأجدى توفير تكلفة نقل مياه التحلية إلى المناطق البعيدة والمرتفعة عن منصات التحلية، من خلال الاستخدام المدروس للمياه الجوفية في هذه المناطق بما يحفظ للأجيال القادمة حقها من هذه المياه غير المتجددة.

قد تعجبون حين تعرفون أن كلفة تحلية متر مكعب من المياه المالحة نحو دولار، واستهلاك أسرة في الرياض من المياه نحو 40 مترا مكعبا شهريا، أي أن الفاتورة الشهرية المفترضة هي 40 دولارا، إلا أن الأسرة في الواقع لا تدفع سوى دولار واحد فقط، أي أعلى من المجان بقليل. وقد يقول قائل: وما مشكلتك ما دامت الدولة تدفع راضية فرق التكلفة الباهظ؟ المشكلة أن هناك هدرا في الاستخدام الشخصي للمياه تحفزه هذه التسعيرة البسيطة.

أما أقصى ما يدعو للعجب، فهو أن جهات محلية تعمل على دراسات لتطوير تصدير العصائر السعودية وجعلها صناعة منافسة في أوروبا وأميركا! علما بأن مصانع العصائر في السعودية تستورد السكر، والعبوات، والعصير المركز من الخارج، أي عمليا هذه المصانع تقوم بإضافة المياه إلى هذه الخلطة ثم تقوم بتصديرها! والمياه المضافة هنا رخيصة بالمقارنة بقيمة إنتاجها الحقيقية، لأنها مياه معانة من الدولة بنسبة تصل إلى 90 في المائة، في مصنع يتم تشغيله بكهرباء معانة من الدولة أيضا، أي أن المصنع في الواقع لا يصدر عصير برتقال وجوافة، بل يصدر كهرباء ومياها سعودية مدعومة بأموال حكومية!

قيسوا على ذلك كل الصناعات المرتبطة بالمياه التي تنتج داخليا بتكلفة مائية ومالية أعلى من قيمة استيرادها، أو تجول خارج حدود المملكة إلى بيت الجار الجنب والجار السابع، سواء العصائر أو المياه المعبأة أو الألبان، وهذه الأخيرة هي الأكثر استهلاكا للمياه بعد القمح والأعلاف، والأكبر في حجم صادراتها من سابقاتها.

وزير المياه السعودي، المهندس عبد الله الحصين، أكثرنا قلقا، لأنه الأكثر علما بالتفاصيل، وضع أمامنا إحصاءات ليست مبشرة حول وضع المياه في المملكة، ويتساءل: كيف لبلد قاحل شحيح في موارده المائية أن يستهلك 90 في المائة من مياهه في الزراعة؟

ولم تكد وزارة المياه ترتد أنفاسها حينما قررت الدولة وقف مشروع إنتاج القمح محليا الذي يستهلك في موسم واحد من المياه ما يكافئ استهلاك مدينة الرياض عشر مرات يوميا، وبعد أن وجدت على الآلة الحاسبة أن كلفة إنتاج كيلو من القمح محليا يصل إلى 6 ريالات مقابل استيراده بـ1.70 ريال - أقول لم تكد تسعد وزارة المياه بهذا القرار الحكيم حتى تحول المزارعون إلى زراعة الأعلاف، بل وتصديرها، فكانت أكثر عبئا على المياه، لأن زراعتها على مدار العام، خلافا للقمح الموسمي.

المياه في أزمة، لكنها ليست أزمة وجود فقط، بل أزمة في إدارة الطلب عليها، حيث التوازن بين حاجة قطاع الزراعة والاستخدام الفردي. مصر أحجمت عن زراعة الأرز، لأن طبيعة زراعته تتطلب غمر الأرض بالمياه، وكان على الحكومة أن تختار، إما أن تستمر في زراعته على حساب حصة توزيع المياه في أغراض أخرى أساسية كالشرب، وإما أن تخفف الضغط على المياه وتستغني عن زراعة هذا المحصول وتلجأ إلى استيراده. واضح أن الحكومة المصرية توجهت إلى الخيار الثاني. هذا يحدث في بلد النيل، أطول أنهار العالم مقاسا وعمرا.

إن الحلول التي تطرحها وزارة المياه والمختصون من الباحثين في موضوع المياه شبه متفق عليها، تتناول تحديد نوعية المحاصيل للزراعة المحلية بما لا تحتاج طبيعة زراعتها إلى الإنفاق العالي من المياه، وإعادة استخدام المياه بعد المعالجة في الزراعة والصناعة، وتوعية المزارعين بأساليب ري مناسبة كالتنقيط، ورفع تسعيرة المياه التي تجعل المستهلك أكثر مراجعة في عملية استخدامه المنزلي، وبالتأكيد دور البحث العلمي في تطوير عملية البحث والتنقيب عن الموارد المائية، وتقنيات تحلية المياه المالحة. هي أزمة عالمية ولا شك، حتى في بلاد الأنهار والأمطار، لأنها نتاج أزمة بيئية أكبر، ولكنها في السعودية أزمة قديمة، منذ أن تغيرت الأحوال المناخية والتضاريس، من مطيرة خضراء إلى صحراء جافة، قبل عشرة آلاف سنة.

* أكاديمية سعودية - جامعة الملك سعود

[email protected]