الأوطان والإعلام

TT

كانت صورة الأوطان في الماضي تعتمد على ما تقدمه سواعد وعقول أبنائها لها في البناء والتطوير ومن معارف وعلوم وفنون، وكانت هذه الصورة نتيجة طبيعية للإنجازات التي يضيفها هذا العمل الدائر فيها ومن أجلها وللشعوب الأخرى أيضا. ولكن منذ تحكم قوى معروفة بتطرفها اليميني المحافظ بالثورة الإعلامية في العالم أخذت عوامل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء والإلكتروني تلعب دورا فاعلا في تشكيل هذه الصورة عن الأوطان سلبا أو إيجابا، وأصبحت المصالح والسياسات والآيديولوجيات المتطرفة هذه تشكل، بشكل منافٍ للحقيقة والواقع، صورة بلدان وأنظمة عدة. وقد تفاقمت هذه الإشكالية بعد الثورة المعلوماتية، بحيث أصبح من المتعذر في الكثير من الأحيان فرز الغث من السمين أو التوصل إلى حقيقة الواقع الفعلي وتمييزها عن الصورة المصطنعة عمدا لهذا الواقع، التي تشكل انزياحا عنه، ومسارا مناقضا لتوجهاته. وفي هذا الحال أخذت هذه الجهات المتطرفة في الغرب، التي أدركت دور الإعلام، باحتكاره، مستخدمة المال (مثلا: 60% من الإعلام البريطاني يملكه شخص واحد). ولذلك أيضا تحول الإعلام مرارا في السنوات الأخيرة إلى أداة لمخططات الحرب والعدوان والتعذيب وتزييف الحقائق وتبرير جرائم الطغاة. ولذلك أيضا فإن صورة العرب أصبحت من صنع خصومهم، بينما صورة إسرائيل في الإعلام الغربي بقيت «واحة الديمقراطية»، وهي التي تشن الحروب وتمارس الإبادة والتطهير العرقيين ضد شعب فلسطين.

وعلَّ العالم العربي، على اختلاف أمصاره ومراحل تقدمه، يقدم أنموذجا لضحية عصر الإعلام وتكنولوجيا المعلومات، على الرغم من امتلاكه أعلى نسبة من الفضائيات في العالم، قياسا لعدد سكانه؛ ذلك أن عدد الفضائيات لا يعني وجود استراتيجية ولا ينبئ بالنتيجة عن ارتباط هذه الفضائيات بقضايا أوطانها وتقديم هذه القضايا محليا وعالميا بالشكل اللائق والمفيد. بل إن المشكلة تجاوزت هذا الحد لدرجة أن متابعي وسائل الإعلام العربية لا يتمكنون في النتيجة من التوصل إلى تقييم حقيقي لقضاياهم المصيرية، ولدورهم المتوقع أو المطلوب في دعم هذه القضايا.

وعلى سبيل المثال لا الحصر هاهي الذكرى الثانية للعدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة تمر وما زال ضحايا ذلك العدوان دون منازل تؤويهم بسبب الحصار الإسرائيلي الظالم المستمر عليهم، ومع ذلك لم تنشغل وسائل الإعلام العربية بهذه الذكرى ولم تفند الجرائم الإسرائيلية المستمرة بحق الشعب الفلسطيني في غزة والخليل والنقب واللد ونابلس، وذلك على الرغم من تنامي مساندة أحرار العالم لقضية الشعب الفلسطيني وتعدد الجهود من تركيا إلى أوروبا إلى آسيا إلى أميركا الجنوبية لمحاولة كسر هذا الحصار العنصري الذي يفرضه جنرالات إسرائيل على المدنيين العزل. وفي هذا الإطار فقد شكل وصول سفينة «مافي مرمرة» إلى ميناء اسطنبول حدثا فلسطينيا بامتياز؛ فقد زحفت اسطنبول لملاقاة سفينة شهداء الحرية، وكانت أعلام فلسطين ترفرف في كل اتجاه، وألقى مطران القدس في المنفى، المطران هيلاريون كبوتشي، خطبة حركت ضمائر الحشود حين أكد إصراره على رؤية القدس قبل مماته ورددوا وراءه عبارة «الله أكبر» عشرات المرات في مشهد سقطت فيه كل الفوارق الدينية على طريق السعي من أجل الحرية والكرامة لأهل فلسطين. كل هذا المشهد لم تأت على نقله فضائية عربية واحدة، على الرغم من أنه يمثل الإخاء الإسلامي - المسيحي التاريخي، ويقدم أنموذجا رائعا للعمل المشترك بين الأديان ضد الاحتلال والظلم، ومن أجل العيش الحر الكريم والمشترك. ويكتسب مثل هذا الحدث أهمية إضافية في وقت يشن فيه أعداء العرب هجمات ضد المسيحيين في العراق ومصر، وتتسارع الخطى باتجاه تقسيم السودان على أساس الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، بينما هجر الكيان الصهيوني مسيحيي فلسطين، وقد غطته في ذلك وسائل الإعلام الغربية التي يملكها متطرفون موالون للكيان الصهيوني الذي يلعب، من دون شك، دورا فاعلا فيما يحدث للمسيحيين في كل أقطار الشرق من اعتداءات ومحاولات تهجير. فلماذا الآن وبعد 1400 عام من العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين تقع هذه الاعتداءات؟ لم يتغير شيء في الشرق الأوسط سوى إنشاء هذا الكيان الذي جلب للمنطقة التعصب الديني والعنصرية والحرب والاغتيال. ويظهر الاختراق الإسرائيلي لوسائل الإعلام من استبدال التركيز على الأحداث التي تذكر بجرائم حرب «الرصاص المصبوب» وعلى ضحايا تلك الحرب والحصار المستمر، بالبحث عن جذور الخلاف بين سياسيين فلسطينيين يتنافسون على سلطة تحت الاحتلال، والغوص في دولة جنوب السودان المقبلة وعلاقتها المحتملة مع الكيان الصهيوني، وما إلى هنالك من قضايا تزيد من فرقة العرب وانقسامهم وتفرش الأرض رمالا متحركة لتغوص أقدامهم فيها فلا يجدون ضوءا أو مخرجا مما يعانون.

لقد تلازم وصول سفينة «مافي مرمرة» إلى اسطنبول مع تمجيد الشهادة من أجل فلسطين، شهادة أحرار العالم هذه المرة وليست فقط شهادة الفلسطينيين والعرب، وهذه خطوة مهمة ومتقدمة بعد أن بادرت إيران أيضا، في القرن الماضي، إلى إغلاق سفارة الكيان الصهيوني وافتتاح سفارة لفلسطين، وبعد أن أخذ عدد متزايد من دول أميركا الجنوبية مؤخرا بالاعتراف بدولة فلسطين. كما ترافق هذا الحدث مع إعلان موعد انطلاق أسطول الحرية (2) في 31 مايو (أيار) المقبل في الذكرى الأولى للمجزرة الصهيونية التي ارتكبتها مجموعة ليبرمان - باراك - نتنياهو ضد المدنيين العزل الذين كانوا يحملون، على سفن أسطول الحرية، الغذاء والدواء والمقاعد المتحركة لمعوقي الحرب في غزة. كما أقام النشطاء الإسبان الذين كانوا على متن «مافي مرمرة» نصبا تذكاريا تخليدا لذكرى شهداء أسطول الحرية العزل التسعة الذين قتلهم الجنود الإسرائيليون بدم بارد خلال الهجوم على السفينة في قلب المياه الدولية وهي في طريقها لكسر الحصار عن غزة. كما يخطط الناشطون الإسبان لإرسال سفينتين محملتين بالمساعدات والناشطين لكسر الحصار عن غزة ضمن أسطول المساعدات في ربيع 2011. كما تزامنت هذه الذكرى مع انطلاق قافلة آسيا (1) التي تنظمها الحملة الآسيوية لكسر الحصار عن غزة وتضم 120 متضامنا من 15 بلدا آسيويا والتي انطلقت من ميناء اللاذقية - سورية - يوم السبت 1/1/2011.

كل هذه الأخبار والأفعال التي تلقي ضوءا على دعم أحرار العالم المتسارع لحق شعب فلسطين بالخلاص من العبودية الإسرائيلية لم تجد المساحة التي تستحقها على الشاشات ووسائل الإعلام لا العالمية (وهذا مفهوم بفعل احتكار المال الإسرائيلي لملكية وسائل الإعلام الغربية)، بل ولا العربية أيضا، فالبرامج الأخيرة ركزت على خوف إسرائيل من تزايد عدد السكان العرب في فلسطين، وهي صورة الرعب الصهيونية التي تستخدم من قبل زعماء الكيان لتشجيع يهود العالم إلى الهجرة إلى إسرائيل ليتحولوا مستوطنين مجرمين ويقتلون ويهجرون السكان الأصليين. وهي صورة بحد ذاتها تعكس العقيدة العنصرية الصهيونية التي تنكر على الفلسطينيين حق العيش الطبيعي على أرضهم ضمن ثقافتهم وعاداتهم وطموحاتهم، كما أن هذه الصورة الإعلامية تغفل حقيقة مهمة ألا وهي نوع الحياة التي يعيشها العرب الأصليون هناك مقارنة بنوع حياة المستوطنين؛ إذ ان القضية لا تنحصر بالعدد، بل أيضا بمقدرات هؤلاء السكان من علم وتقنية وإنتاج علمي وثقافي وحضاري والذي يحرم منه العرب جميعا وهو حكر على القوى الاستعمارية الإسرائيلية. إذا كانت كل هذه الجرائم وغيرها كثير، ليس أقلها إجبار السكان الأصليين على هدم منازلهم أو دفع أجرة الهدم، لا تظهر كما تستحق أن تظهر في الإعلام العربي لتصل ضمائر الأجيال العربية كلها، فكيف يمكن لنا أن نطالب بالاستحقاق الأساسي وهو أن تصل كل جرائم الاحتلال إلى ضمائر وعقول وقلوب العالم برمته؟ وحينذاك سنكتشف أن غالبية أبناء العالم هم من الأحرار الذين لا يقبلون أن يهدم بيت أو تشرد أسرة أو تقتلع شجرة زيتون أو يعتقل طفل أو امرأة دون وجه حق. المطلوب اليوم وغدا وبعد غد، ليس فقط أن يكون الإعلام العربي حاملا لقضاياه، بل أن يحمل هذه القضايا أيضا إلى ضمائر أحرار العالم. هل يعجز العرب اليوم عن إطلاق قناة عربية واحدة، بدلا من كل هذه القنوات التي تبث الفرقة، والفتنة، والتفاهة، كي تصوغ وتنشر أخبارها بضمير عما يتعرض له العرب اليوم في فلسطين والعراق والسودان والصومال من قهر وترويج طائفي؟

لقد صمد أهل فلسطين صمودا أسطوريا طوال أكثر من ثلاثة وستين عاما أمام أعتى قوة عدوانية شهدتها البشرية، وهم لا يبخلون على تراب فلسطين بدمائهم ومستقبلهم، أوَلا يستحقون منا جميعا، من العرب كلهم، أن ننقل قصة كفاحهم الحقيقية من أجل العدالة والحرية إلى جميع أحرار الأرض؟ إن هذا الأمر سهل ومتاح ولا يحتاج إلا إلى الإرادة والإيمان الفعلي بهذه الأوطان ومستقبلها.