الغلطة الكبرى

TT

يتسابق المحللون والمراقبون والسلاميون، في السنوات الأخيرة، في التشهير بما فعله الحلفاء في العراق، وما تسببوا به من مآس ومقاتل ومشكلات. كان من آخرهم الصحافي الإنجليزي البارع، جون برغر، الذي قدم فيلما طويلا على التلفزيون البريطاني، ونشر تقريرا ضافيا في «الغارديان»، وعدة مقالات في المجلات يفضح فيها ما جرى. أصبحت هذه موضة الموسم. وراح الكثير من العراقيين أيضا يشاركون في هذه الحملة ويعيرون ويتشفون بمن أيدوا المعارضة ضد صدام.

أخذ هذا يعيد النظر في الموضوع ويثير التساؤل، ومن ذلك: هل كان نظام صدام أسوأ حقا من الوضع الحالي؟

أعتقد أن إسقاط صدام حسين كان ضرورة سياسية. فليس من المعقول أن يؤول مصير دولة كالعراق بيد رجل، بكل صراحة وموضوعية، مجنون. قيل اصبروا فسيموت وتتخلصون منه. ولكن الحكم سيؤول بيد من كان أكثر جنونا منه، ابنه عدي. وسيصاب البلد من التخريب ما يحتاج أجيالا لإصلاحه. قيل، حسنا فليتخلص منه العراقيون بأيديهم ودون الاستعانة بالأجنبي. تدارسنا هذا الموضوع مرارا وخلصنا لهذه النتيجة، وهي أن الوضع الأمني الرهيب لن يعطي فرصة لأي أحد في الانقضاض عليه. حتى قتله لن يحل المشكلة فسيرث الحكم ابنه عدي أو أحد أزلامه. الاستعانة بأجنبي ليس بجديد في التاريخ. الأحرار الألمان (بريخت مثلا) استعانوا بإنجلترا لتسقط هتلر، والفرنسيون الملكيون استعانوا بها لتسقط نابليون. وآل ستيوارت استعانوا بالفرنسيين ليستعيدوا العرش البريطاني. ما في الاستعانة بالأميركان والإنجليز شيء جديد. ولو سنحت بيدنا الفرصة لاستعنا بالشيطان لنسقط إسرائيل. الحقيقة أن الفلسطينيين واللبنانيين يستعينون حاليا بإيران لضربها.

الغلطة الكبرى التي وقعنا بها هي أننا خلطنا بين الإنجليز والأميركان. العراق مدين للإنجليز الذين فتحوا البلد في العشرينات وأقاموا فيه تدريجيا حكما سليما وعلمونا كل شيء، بما فيه أن نبول وقوفا. كنا نتصور أن الأميركان وهم أنغلوسكسون سيفعلون نفس الشيء. نسينا اختلاف المزاج، وأن الأميركان نشروا الفوضى أينما ذهبوا. ثارت الملايو على الإنجليز مثلما ثارت فيتنام على الأميركان. ولكن الإنجليز تعاملوا مع الشيوعيين في الملايو بحكمة ودراية وأنهوا النزاع بسلام. قارنوا ذلك بما فعله الأميركان بفيتنام. من الواضح أن الأميركي تنقصه الخبرة في التعامل مع الشعوب المتخلفة. فهو، على عكس الأوروبي، لا يعنيه من العالم، وبالتالي لا يفهم، غير بلده. أشار الإنجليز على واشنطن بأن يحتفظوا بالجيش وأجهزة الأمن في العراق، ويبقوا الحكم بيد السنة حتى تستقر الأوضاع ويقام حكم ديمقراطي متين. فعل الأميركان كل شيء بعكس ذلك. ثم ندموا. أضافوا إليه بأن جاءوا بأشخاص، مثل بريمر، لا علم لهم ولا خبرة حقيقية بالبلد، وأعطوا قدوة للآخرين. ومما سمعته ممن أثق بهم، تصرف بعض جنودهم أسوأ تصرف. ومن ذلك سرقة مجوهرات البيت عند تفتيشه. ناهيك عن وقوفهم جانبا يتفرجون على نهب المتاحف والمعارض وحرق المكتبة العامة. الإنجليز أسسوا المتحف العراقي في العشرينات والأميركان دمروه في 2003.

هذه هي الغلطة الكبرى التي وقعنا بها. اختلطت علينا الإبل.