كل الشياطين هنا.. التاريخ الخفي للأزمة المالية

TT

يمكن أن تملأ جهاز «آي باد» بكل الكتب والوثائق وملفات الوسائط المتعددة والعروض المنسدلة والعروض الإلكترونية التي تم إنتاجها عن الانهيار المالي الكبير في عام 2008. ويمكن أن نتفهم موقف القراء الذين يشعرون بقلق كبير عندما يفكرون في أننا نحتاج لكتاب آخر عن الأزمة المالية، مثلما نحتاج إلى موقع إلكتروني آخر مخصص للسياسة.

ولكننا نحتاج بالفعل إلى كتاب «كل الشياطين هنا»، للمؤلفان بيتاني ماكلين وجو نوكيرا،

لأنه حتى في ظل استمرار تكشف الأزمة - خلال شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تم رفع قضية مدنية ضد شركة المحاسبات «إرنست & يونغ» بسبب دورها المزعوم في انهيار مصرف ليمان براذرز - يتورط البعض داخل واشنطن في محاولات متعمدة لإساءة قراءة الأحداث.

وصوت كل الأعضاء الجمهوريين المعينين في اللجنة الفيدرالية للتحقيق في الأزمة المالية خلال الشهر الماضي ضد استخدام كلمات مثل بورصة «وول ستريت» في التقرير النهائي للمجموعة. وبعد انتخابات شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بدأ أعضاء جماعات الضغط المصرفية في التخطيط مع الكونغرس المقبل رقم 112 للتراجع عن الإصلاحات الفاترة التي طبقت بعد الأزمة. لذا، فقد وصل هذا التاريخ المقروء والتوجيهي بشكل عال للأحداث والعقلية التي أججت لهيب الأزمة المالية التي اشتعلت في شهر سبتمبر (أيلول) من عام 2008 - في الوقت المناسب بعدة طرق.

وتعامل بيتاني ماكلين وجو نوكيرا، الزميلان السابقان في مجلة «فورتشين» مع عنوان كتابهما حرفيا؛ حيث تم عرض الشخصيات المدرجة في بداية الكتاب بطريقة رائعة حول 100 شيطان. وكان ماكلين، وهو كاتب مشارك في مجلتي «فانيتي فير» و«سليت»، ونوكيرا، وهو كاتب عمود في جريدة «نيويورك تايمز» مستعدان للتضحية بالسرعة والشهرة لصالح جودة الكتابة والقصة المحكمة ومتعددة الطبقات. وبخلاف الكثير من الكتابات السريعة التي دونت عن الأزمة المالية، يتميز كتاب «كل الشياطين هنا» بأنه مكتوب بإحكام وطريقة منهجية لا تلجأ للإثارة المتعمدة. ولكن المعلومات التي تم الكشف عنها في الكتاب صادمة مثل المعلومات الواردة في معظم الكتب السابقة المعمرة بشكل أقل.

وعلى مدار ثلاثين عاما أو ما يقارب ذلك، حدث أن ساهمت القروض العقارية والأنشطة المستعرة بشكل متزايد التي تحيط بها في إصابة النظام الكامل بالعدوى وإفساده - مثل المصارف والمنظمين والمشاريع التي تمولها الحكومة والسياسيين على كلا الجانبين. وهناك صور جيدة للشياطين الذين نعرفهم بالفعل مثل أنجيلو موزيلو، المؤسس والداعم القوي لشركة «كانتري وايد فايننشيال»، بسبب مجموعة من الأمور المثيرة للامتعاض والرغبة في السيطرة والغطرسة؛ وستانلي أونيل من شركة «ميريل لينش»، وأول رئيس تنفيذي أسود لشركة سمسرة كبرى، والذي كان يتعجل جمع شركته للأرباح التي اكتسبها عمالقة آخرون في بورصة وول ستريت؛ وجيم جونسون وفرانكلين راينيس، الرئيسيان التنفيذيان لشركة الرهون العقارية العملاقة «فاني ماي» التي تدعمها الحكومة، واللذان يتمتعان بدهاء سياسي.

ويعرض لنا المؤلفان أيضا بعض اللاعبين الجدد المخادعين مثل رونالد أرنول، التي بقيت أعماله حتى الآن خفية إلى حد كبير. وكتب المؤلفان: «على الرغم من أن شركاته لم تتلق مطلقا اللوم الذي سوف ينهال خلال فترة لاحقة على شركة (كانتري سايد)، كان أرنول بالفعل في مجال الرهون العقارية».

وكان أرنول، الذي ولد في باريس عام 1939، يبيع الزهور في الشوارع بولاية كاليفورنيا قبل أن يبدأ عدة مشاريع تجارية، كان من بينها شركة «لونغ بيتش للرهون العقارية»، وهي شركة للتسليف العقاري استدعت ممارساتها التجارية رديئة الخضوع تحقيقا فيدراليا في عقد التسعينات من القرن الماضي.

ووقع أرنول صفقة مع ديفال باتريك، مساعد المدعي العام في إدارة كلينتون (وحاكم ولاية ماساتشوستس في الوقت الحالي)، أنكرت شركة «لونغ بيتش» بمقتضاها الادعاءات ووافقت على دفع مبلغ مليون دولار أميركي للمنظمات الوقفية المتخصصة في تثقيف المستهلكين. وبعد اختفاء شركة «لونغ بيتش»، أسس أرنول حزمة من شركات التسليف العقارية من بينها شركة «أميريكويست» و«آرغنت» اللتان جسدتا أسوأ الممارسات في هذه المهنة، مثل زيادة قيمة المنتجات بشكل مفاجئ وتقديم حوافز خلال المعاملات المصرفية الهاتفية للسماسرة، في تجاهل كبير للشروط التنظيمية.

وبحلول عام 2005، كانت ثروة أرنول، الذي حافظ على ملكيته الخاصة لشركاته، تقدر بنحو 3 مليارات دولار وحل في المرتبة الثالثة والسبعين على قائمة مجلة «فوربس» لأغنى 400 شخص في العالم. واستثمر أرنول بعضا من أرباحه العقارية في السياسة، حيث تبرع بشكل كبير لدعم قضايا الحزب الجمهوري. ورشح ديفال باتريك أيضا لشغل منصب في مجلس إدارة إحدى شركاته التجارية بمرتب مرتفع.

وفي عام 2006، وعندما خضعت إمبراطورية أرنول العقارية للتدقيق القانوني والصحافي مجددا، لم تمنعه هذه الخطوة من الحصول على تمويل من مصرف سيتي غروب أو من أن يتم ترشيحه بواسطة الرئيس جورج دبليو بوش كسفير للولايات المتحدة لدى هولندا. وكان عضو مجلس شيوخ أسود، شاب من ولاية ألينوي، متحفظا بشكل مبدئي على دعم ترشيحه لهذا المنصب، ولكنه أشار بقوله: «تلقيت خطابا من ديفال، الذي يعتبر بالفعل صديقا شخصيا جيدا بالنسبة لي». وفي شهر فبراير (شباط) وبعد شهر من إعلان شركة «أميريكويست» عن التوصل إلى تسوية قيمتها 325 مليون دولار مع المدعي العام للولاية، وقبل أربعة أشهر من إغلاق الشركة لأبوابها بشكل أساسي، تم تأكيد ترشيح أرنول لشغل منصب السفير الأميركي لدى هولندا.

ونظريا، كان من المفترض أن تعمل شركات أرنول لصالح الشعب والحكومة الأميركية – وكيف يمكنهم بطريقة أخرى تبرير الإعانات الهائلة التي حصلوا عليها في شكل التخفيضات الضريبية والتمويل الحكومي شبه المضمون؟

وفي الواقع، كان الأباطرة يعملون، حسبما أوضح ماكلين ونوكيرا، من أجل تحقيق أغراض خاصة. وبينما هاجم المؤلفان التصريحات الغريبة للجناح اليميني التي تقول إن شركتي «فاني ماي» و«فريدي» هما المسؤولان بمفردهما عن أزمة الرهون العقارية، فإنهما أظهرا بالتفصيل الدقيق كيف كانت الشركتان قادرتين على مواجهة الضغوط التنظيمية.

وأكدا بشكل مقنع أن الأشخاص المكلفون حماية النظام المصرفي لا يزالون يتعامون بشكل متعمد عن المخاطر التي تهدد هذا النظام. (وأشار المؤلفان إلى أن مذكرات ألان غرينسبان لم تتضمن عبارة «الرهون العقارية» أو «التسليف الجشع». وقالا إن النظام تحرك لصفع أي شخص تظاهر أو أثار أسئلة جادة حوله).

وتوفي أرنول خلال شهر مارس (آذار) عام 2008، ولكن عددا كبيرا من الشياطين لا يزالون يوجدون معنا. ويمكن أن تخلف أعمالهم الشيطانية الشريرة وراءها مشكلات تستعصي على الحلول السهلة (أو حتى الصعبة). وتوصل ماكلين ونوكيرا إلى أن مشروع قانون دود - فرانك للإصلاح المالي لم يفعل أي شيء لتغيير وضعية شركتي «فاني ماي» و«فريدي ماك»، وقالا: «سبب تغافل التشريع عن ذكر الشركتين هو عدم قدرة أي فرد على تقرير ما يجب أن يتم فعله».

ويختتم المؤلفان كتابهما «كل الشياطين هنا» فقط قبل بداية العمل بالفعل، مثل كتاب عن معركة «بيرل هاربور» التي انتهت في أواخر شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1941. ولكن الكتاب يستحق القراءة إلى حد كبير بفعل استنتاجاته المدينة وحرفية مؤلفيه.

ونسج ماكلين ونوكيرا خيوطا تبدو غير مترابطة من القصة إلى نسيج محكم ومترابط منطقيا. وبينما تبدأ فصول الكتاب مثل بدايات المواضيع الإخبارية في مجلات المنوعات على غرار: «ستانلي أونيل أراد أن يراه، يا له من أمر غريب!».، فإن هذا السرد بني بواسطة كتاب ماهرين بدرجة فائقة من الاهتمام والرعاية. ومن العار أننا لا يمكن أن نتحدث بالمثل عن مهنة الرهون العقارية في الولايات المتحدة.

* مؤلف كتاب «أموال خرساء: كيف أفلست عقولنا العظيمة الأمة» وكاتب عمود في موقع

«ياهو فاينانس»

* خدمة «واشنطن بوست»