السباق بين الأمن والخبز

TT

المنجمون هم المنافسون الحقيقيون للمعلقين والمراقبين السياسيين، في حرفة الكهانة. في رصد الأحوال والأجواء السياسية. في قراءة فنجان الدولة والنظام. في التبصير وتملي الأفلاك، لاستطلاع بخت نجوم السياسة والفن والمجتمع.

حقا، كذب المنجمون ولو صدقوا. لكن على كتاب الصحافة والسياسة الاعتراف بأن (زملاءهم) المنجمين يبذلون جهدا مستميتا في متابعة الأحداث. نعم، ليسوا بقادرين على التحليل والتفسير. لكنهم يملكون القدرة على الإبهار. وبث رعشة الرعب في النفوس، وهم يطالعون الناس، بكل التوقعات المتشائمة، عن الكوارث الطبيعية. الحروب. الأوبئة. الاغتيالات. الرحيل المفاجئ للزعماء... مع كل إطلالة لعام جديد.

من حسن حظ الصحافيين أن ذاكرة الرأي العام تنسى بسرعة أخطاء تنبؤاتهم (الفلكية). غير أنها لا تغفر للمنجمين تنبؤاتهم التي غالبا لا تتحقق. السبب أن رصد المجهول يبقى فنا صحافيا متحفظا. خجولا، فيما جرأة المنجمين المباشرة، في الكهانة، توردهم موارد الفشل الكفيلة، بانطفائهم وغيابهم. وكم من صحافي ومعلق ما زال نجما متألقا، على الرغم من فشله المتواصل في قراءة النجوم. والفناجين. وأكف الساسة.

كصحافي محترف، أعترف بأني أمارس الكهانة السياسية. لا يكفي التحليل والتفسير. العامل المساعد للكاتب السياسي، هو القدرة على استخلاص النتائج. وعلى هذه النتائج يمكن البناء في توقع التحولات الاجتماعية والسياسية. كنت من القلة الصحافية التي لم تتوقع حربا إقليمية في عام 2010، فيما الكثرة توقعت الويل والثبور وعظائم الأمور، بين العرب وإسرائيل، أو بين إيران وأميركا. عذر هؤلاء في أن المنطقة تمشي على حد السيف، بين الحرب والسلم.

من هنا، لن أستقبل العام الجديد كمنجم، إنما كصحافي مراقب. سبق أن قلت إن تحركات الحشود والأساطيل في البحار الحمراء. والسوداء. والبيضاء، لا تشغلني، ولا حتى عمليات العنف والإرهاب، مهما بلغت قسوتها المفجعة على النفس المتعاطفة مع الضحايا البريئة.

عندي الأكثر أهمية من الحرب والعنف، هو ما يجري داخل المجتمعات سلبا وإيجابا، سواء كان ازدهارا حقيقيا. أو إخفاقا في معالجة الأزمات. الاضطراب تحت السطح الفولاذي للسلطة، هو في الواقع المقدمة الحقيقة المخيفة للحروب المدنية داخل المجتمعات، أو للحروب الثنائية والإقليمية، بين الدول المتجاورة، أو المتشاطئة.

أكره القول إن هناك شعوبا عربية ما زالت من القلة النادرة المنقرضة التي تؤمن بأن هناك أمة عربية، ذات مجتمعات متعددة، لا ترقى خصوصياتها المحلية، إلى نفي كونها أمة. إذا كانت هذه الأمة موزعة أشلاء على دول مستقلة، فمجتمعاتها ما تزال متآخية في العاطفة. في المصلحة. في اللغة. الثقافة. المزاجية. في الألم والأمل... وإلا هل يمكن تفسير تعاطف المصريين، مثلا، مع التونسيين في أحداث سيدي بوزيد، خارج الاعتقاد العميق، بالمصير الواحد المشترك؟

انطلاقا من اضطرابات سيدي بوزيد، وأزمة السكن العصية في الجزائر، أستطيع أن أقدم تفسيرا نفسيا للوضع الاجتماعي العربي، خارج منطق الصراع السياسي والآيديولوجي الذي بات مكررا، إلى حد الابتذال.

همّ الدولة العربية، في عالم مضطرب. ومجتمع قلق، هو الأمن. فهو في تصورها وتخطيطها، مفتاح الاستقرار. والمدخل إلى التنمية. وصولا إلى الرفاهية والازدهار. ما من دولة عربية نجحت، بقدر ما نجحت الدولة التونسية، في تجنب الاقتتال بين النظام والتنظيمات الدينية، وفي تجنيب مجتمعها غيبيات هذه التنظيمات. وإنقاذ الأجيال التونسية، من الدروشة القدرية التي ما لبثت أن انقلبت إلى عنف مروع في مجتمعات أخرى، كما الجزائر.

بل بلغت الدولة التونسية من الجرأة الممتازة، إلى حد قلب أسس التربية والتعليم، لتحرير المرأة ودمجها في المجتمع والاقتصاد. وللتخلص من الحفظ والتلقين اللذين ما زالا ساريين، حتى في الدولة العربية التي تدعي أنها علمانية. ثم ما لبثت الدولة التونسية أن استفادت من إرسائها الأمن والاستقرار، في التقدم نحو التنمية، على أساس الليبرالية التي اعتمدها النظام الجمهوري، منذ عقد من السنين، في العالم العربي.

في اعتناق الدولة العربية مذهب الليبرالية الاقتصادية، من دون ليبرالية سياسية، أقول إن التطبيق الصارم للأمن حفظا للاستقرار، وضع النظام الجمهوري، في تناقض متزايد مع حاجة مجتمعه إلى الخبز. أقصد بالخبز رمزا للرزق. للعمل. للسكن. للخدمات الأساسية، من مدرسة. مستشفى. طريق. غذاء. ماء. كهرباء. تقنية صناعية.

ثمة خلط، عندنا، بين الديمقراطية والليبرالية. الديمقراطية هي تقنية تصنيع الحرية. هي آلية تحويل الحرية إلى سلطات شعبية. تنفيذية. عدالة قضائية. أما الليبرالية فهي مذهب سياسي/ اقتصادي. هي فلسفة التخفيف من اللامساواة التي تحدثها رأسمالية اقتصاد السوق، بين المال والعمل.

في تمسك النظام بفرض الأمن المطلق، انقطع الحوار بين دولة السلطة والمال، ومجتمع الخبز. هناك حاجة إلى اقتراب أوتوقراطية النخبة من ديمقراطية المواطن العادي. أدعو إلى المغامرة الشجاعة بالنزول إلى الشارع الشعبي. إلى الالتقاء بالناس. إلى الحوار المباشر معهم. إلى الإحساس بلهاثهم. بشقائهم. الإطلالة من وراء زجاج التلفزيون تحيد العواطف. تشيح بالوجوه المتعبة، عن متابعة المواكب المتكررة لأبهة الفخامة المحفوفة برهبة المناصب والمراتب.

الأهم من ذلك إسقاط ثقافة البيروقراطية التقليدية. ثقافة اعتقاد الموظف بأن مجتمع الخبز أجير وخادم لمجتمع الأمن. لا بد من إشاعة ثقافة الدولة المانحة. الدولة في خدمة المواطن، ليس فقط في حفظ أمنه. إنما أيضا في حفظ كرامته. كبريائه. لا بد من إقامة علاقة متوازنة، بين دولة النخبة والأمن، ومجتمع العمل والخبز.

لكي لا يكون الكلام إنشاء وقبض ريح، هناك قناة عملية توفر التحام الدولة بالمجتمع: دولة البلدية. سخر الرحابنة وفيروز من البلدية البليدة. بث الحياة في دولة البلدية يتم بتقسيم العاصمة والمدن الكبرى، إلى عدة بلديات. واختيار عمداء البلديات ومجالسها بالانتخاب الشعبي. فصل منصب المحافظ والوالي عن منصب عمدة البلدية. والسماح للعمدة بأن يكون أيضا عضوا في البرلمان، لإحكام الوصل بين سلطة الشارع وسلطة الشعب. ثم إقامة حوار متواصل بين المجالس البلدية وسكان البلديات، حول هموم ومشاكل الحياة المدنية اليومية.

لكي لا تضرب شرطية في سيدي بوزيد، شابا جامعيا بعصا البلدية، لأنه افترش الرصيف، عارضا سلعه الرخيصة، تأمينا لخبزه، فباستطاعة كل بلدية أن تقيم، في كل ساحة عامة، سوقا شعبية يعرض فيها الذين لا يملكون، سلعهم على الذين يملكون. السوق الشعبية تحفظ كبرياء البائع الصغير. تمنح أملا لشاب لا يجد عملا. تحافظ على نظافة الشارع. جمالية المدينة. هدوئها. حرية المرور على رصيفها. تلغي انتحار المتعطلين. تجعل الحياة أكثر إشراقا وقبولا، في حلاوتها ومراراتها.

من أين المال لتمويل البلديات؟ ريثما يتعود فقراء أحزمة البؤس دفع ضريبة البلدية، قبل أداء ضريبة الدولة، تستطيع الدولة أن تقتطع جزءا من ميزانية التنمية، لتمويل خدمات البلدية. لكي يشعر مجتمع الخبز بأن المال العام ليس أرقاما صماء، للدعاية لنمو اقتصادي، يضع الناس باستمرار على خط الفقر. نمو لا يشبعهم، فيسيسهم مطالبين بالحرية. ولا يجيعهم، فيحلمون بالثورة.