مسيرة الحماقة في باكستان

TT

لندن ــ من المحتمل أن تكون التقارير الإخبارية حول رغبة قيادات أميركية عسكرية رفيعة المستوى داخل أفغانستان في توسيع نطاق الغارات البرية لقوة العمليات الخاصة لداخل المناطق القبلية الباكستانية، قد تم تسريبها عمدا لزيادة الضغوط على عاتق القيادات العسكرية الباكستانية كي تتخذ إجراءات أكثر صرامة ضد مقاتلي «طالبان» الساعين لإيجاد ملاذ لهم في باكستان.

إلا أنه لو كانت هناك رغبة حقيقية لدى الجنرالات الأميركيين في زيادة هذه الغارات، فإنه يتعين الإعلان بوضوح عن أن هذه ليست مجرد فكرة مجنونة، وإنما فكرة تكشف إلى أي مدى أصبح كبار القادة العسكريين الأميركيين (والبريطانيين) مهووسين بالحرب في أفغانستان على حساب النضال ضد الإرهاب بوجه عام.

وتحمل باكستان، بعدد سكانها الضخم (حوالي 200 مليون نسمة) وجيشها الكبير وترسانتها النووية والشبكات المتطرفة المستشرية بها والشتات الخاص بها في الغرب، أهمية أكبر بكثير عن أفغانستان، وتشكل مصدرا لتهديد إرهابي محتمل أخطر بكثير ضد الغرب. إضافة إلى ذلك، فإن الأمر الوحيد الذي سيؤدي قطعا لانهيار الدولة الباكستانية وتزايد قوة العناصر المتطرفة والإرهابية على نحو بالغ هو انقسام الجيش الباكستاني وتمرد قطاعات منه ضد التحالف مع أميركا. وتنطوي الغارات البرية الأميركية داخل باكستان على مخاطرة التسبب في هذه النتيجة الكارثية. في الحقيقة، رغم كل الحديث عن خطر انهيار الدولة واندلاع ثورة إسلامية في باكستان، ربما تتسبب الولايات المتحدة ذاتها في دفع هذه الأحداث للتحقق.

ويبدو أن أنصار الغارات البرية يعتقدون أنها لا تعدو امتدادا للحملة الراهنة التي تستخدم فيها طائرات من دون طيار ضد أهداف بالمناطق القبلية الباكستانية، والتي أثارت سخطا قويا ولم تحرز سوى نجاح تحيطه شكوك قوية.

وقد أخبرني ضباط باكستانيون من رتبة كابتن وصولا إلى لفتنانت جنرال أن دخول قوات برية أميركية لباكستان سعيا وراء «طالبان» و«القاعدة» يشكل السيناريو الأكثر كارثية بالنسبة لكل من العلاقات الباكستانية - الأميركية ووحدة صفوف الجيش الباكستاني. وحسبما شرح لي أحد الجنرالات المتقاعدين، فإن الهجمات باستخدام طائرات من دون طيار، رغم أن الضباط والجنود العاديين يعتبرونها أمرا مهينا، فإنها لا تعد قضية محورية لأنه ليس بإمكان المؤسسة العسكرية الباكستانية فعل أي شيء حيالها.

وأضاف: «أما دخول قوات برية أميركية باكستان فأمر مختلف لأن الجنود بإمكانهم التحرك ضد ذلك. إن بمقدورهم القتال، وإذا لم يقاتلوا سيشعرون بإهانة كبرى أمام زوجاتهم وأمهاتهم وأطفالهم. إنها مسألة شرف، وهو أمر بالغ الأهمية في مجتمعنا. لذا سيحاربون. وإذا أمرهم قادتهم بالامتناع عن القتال، سيتحول الكثيرون منهم للتمرد، بداية من قوات الحدود».

بالنسبة لي، جاءت أكثر اللحظات خطورة خلال زياراتي لباكستان منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001 في أغسطس (آب) وسبتمبر (أيلول) 2008 عندما دخلت القوات الأميركية مرتين المناطق القبلية الباكستانية لشن غارات ضد قواعد لـ«طالبان» و«القاعدة» مشتبه فيها. وفي المرة الثانية، أطلق جنود باكستانيون أعيرة نارية بالهواء لدفع الأميركيين للتراجع.

الملاحظ أن باكستان أكثر صلابة بكثير عما يفترضه الكثير من المحللين الغربيين، وما تزال قدرة المتطرفين على نشر حركة تمرد وثورة (وليس الإرهاب) محدودة نسبيا. لكن حال انقسام الجيش، فإن الدولة قد تنهار بسرعة كبيرة. الملاحظ أن المخاوف الغربية من هذا الانهيار ركزت على مصير الأسلحة النووية الباكستانية، لكن تفكك المؤسسة العسكرية سيؤدي حتما لوقوع كميات ضخمة من الأسلحة التقليدية (بينها صواريخ مضادة للطائرات) وخبرة عسكرية في أيدي الإرهابيين.

وسيعني ذلك أيضا هزيمة مؤكدة للغرب في أفغانستان. وما غفلت التقارير الغربية عن ذكره هو أنه رغم أن مقاتلي

«طالبان» من الأفغان يجدون ملاذا لهم في باكستان، فإنهم لم يتلقوا نمط المساندة النشطة والمساعدات التي قدمها الغرب وباكستان للمجاهدين الأفغان الذين كانوا يقاتلون السوفيات وحلفاءهم الشيوعيين في ثمانينات القرن الماضي. وإذا أراد الغرب تحويل الملاذ لدعم نشط، فإن الغارات البرية الأميركية ستمثل سبيلا نموذجيا لتحقيق ذلك.

في خضم قلقهم بشأن إحراز النصر في أفغانستان، يبدي الجنرالات الأميركيون مؤشرات على اقترافهم خطأ كلاسيكيا في إستراتيجيتهم العسكرية، وهو أنهم أصبحوا مهووسين بجانب واحد من ميدان القتال على حساب المعركة ككل.

جدير بالذكر أنه في معركة ووترلو، وجه نابليون مزيدا ومزيدا من الجنود لـ«شاتو دو أوغومون»، وارتكب هتلر الخطأ ذاته في ستالينغراد.

كما أنهم نسوا أن النجاح ضد الإرهاب لا يعني في النهاية قتل أعداد أكبر من «طالبان» في أفغانستان أو باكستان، وإنما يعني منع وقوع مزيد من الهجمات ضد الغرب. إن مبادلة قادة قتلى أو أسرى لـ«طالبان» بالمناطق القبلية الباكستانية مقابل تهديد أكثر خطورة بكثير في الغرب يعني مبادلة نجاح تكتيكي محدود للغاية ومؤقت بإخفاق استراتيجي طويل الأمد وشديد الخطورة.

* أستاذ بقسم الدراسات الحربية بـ«كينغز كوليدج» في لندن

وزميل بارز لـ«نيو أميركا فاونديشن» في واشنطن

* خدمة «نيويورك تايمز»