هل ضاق ثوب العرب بمسيحييه؟!

TT

ليست هذه المرة الأولى التي تحصل فيها أحداث طائفية محزنة في مصر.

في السنوات القريبة فقط اشتعل المشهد بين متطرفين إسلاميين وبعض الأقباط المسيحيين في مصر.

لم تكن الأمور مريحة، لا تهدأ فتنة حتى توقد أخرى، رغم الصور المتكررة التي تجمع بين شيخ الأزهر وبابا الأقباط.

في الإسكندرية نفسها نتذكر ماذا حصل في 2006، وتحديدا في أبريل (نيسان)، حين قام شاب مسلم، قيل إنه مختل عقليا، بمهاجمة عدة كنائس ودور عبادة مصرية بالأسلحة البيضاء، لقي فيها قبطي مصرعه وجرح آخرون، كما جرح عددا من المسلمين، وحذر حينها القس مرقص عزيز خليل من حصول انفجار طائفي وشيك بسبب هذه الاحتقانات والاحتكاكات المتكررة، وحذر أيضا من تسبب بعض الكتاب والإعلاميين الذين لا يمارسون إحساسا بالمسؤولية وهم يكتبون في الصحف كتابات تعبوية وشاحنة ضد الأقباط.

إذن فما جرى في الهجوم على كنيسة القديسيْن في الإسكندرية في صلوات رأس السنة الميلادية ليست المرة الأولى في التاريخ المعاصر لمصر.

بدأت مشكلة العنف الطائفي في مصر عام 1972 بحادثة الخانكة وحادثة الزاوية الحمراء، وأحداث متعددة بعد ذلك وصولا إلى الثمانينات، حيث اضطر السادات في عام 1977 إلى الاعتراف بوجود أزمة طائفية في أعقاب إحراق إحدى الكنائس بقرية في الفيوم. واستمرت حلقات المواجهة القبطية - الإسلامية في مصر بعد أحداث قرية الكشح بمحافظة سوهاج عامي 1999 و2000.

وكلنا يتذكر ما تم قريبا قي قصة «السيديهات» في 2006 أيضا، حين حصلت أزمة بكنيسة مارجرجس على أثر توزيع الكنيسة قرصا مدمجا يحوي مسرحية بعنوان «كنت أعمى والآن أبصرت»، وتحكي قصة مسيحي أسلم ثم عاد للمسيحية باعتبارها الأفضل. وهو ما اعتبره المسلمون إساءة لهم فخرجوا على أثرها في مظاهرة قتل فيها البعض...

وأحداث أخرى مثل أحداث سمالوط، وأزمة جريدة «النبأ» وفضيحة صور راهب دير المحرق، وقضية إسلام المرأة القبطية وفاء، زوجة أحد الكهنة.

وأخيرا أحداث الفتاتين التي قيل إنهما قبطيتان أسلمتا ثم احتجزتهما الكنيسة القبطية لثنيهما عن الإسلام، وهي القصة التي أصبحت مادة مثيرة لبعض وعاظ الإسلاميين والصحف الصفراء في مصر، وكانت هذه القصة تحديدا، هي التي استند اليها بيان الجماعات الإرهابية في تبرير الهجوم على كنيسة الإسكندرية وقبل ذلك كنيسة سيدة النجاة في بغداد في ربط خبيث ومفتعل، و«بين حانا ومانا ضاعت لحانا» كما يقول المثل.

هل تتحمل الدولة المصرية وزر هذا الجو الطائفي المريض؟ وهل هي المسؤولة عن منع أي استهداف للمسيحيين أو غيرهم من غير المسلمين المصريين؟ بالطبع هي مسؤولة، ولكن الإنصاف يقتضي القول إن الدولة المصرية الحالية «جادة» في مواجهة الطائفية وكبح التلاعب بالوحدة الوطنية، بل يكاد يكون الحفاظ على الوحدة بين «عنصري الأمة» حسب الأدبيات المصرية الوطنية المعروفة، منذ ثورة 1919 ووحدة الصليب والهلال، يعتبر أوجب الواجبات والخط الأحمر الساخن الذي لا يتهاون فيه الرئيس المصري، رأس الدولة المصرية، ولكن مثل هذه الأحداث الإرهابية تقع في كل مكان بالعالم، فقد سبق أن استهدفت دور عبادة يهودية في تركيا وتونس، على يد الجماعات الأصولية، وهاتان الدولتان لا يشكك أحد في قوة أجهزتهما الأمنية ومحاربة النزعات الطائفية فيها، ومع ذلك وجد الثعبان الأصولي ثغرا نفذ منه ونفث فيه سمومه، وقبل ذلك كانت هناك الطرود المفخخة من اليمن إلى كنيس يهودي في شيكاغو بأميركا، التي أُحبطت قبل بلوغ هدفها.

رغم أن بعض أعداء النظام في مصر، سينتهزون الفرصة لتصفية الحسابات، فإن الأمر أكبر من هذه «الحركات» الخفيفة. الأمر يتعلق ببقاء الأمة نفسها كما هي، واستمرار الوحدة الوطنية وصيانتها من العبث.

هنا يجب تجريم إثارة الطائفية والتمييز الديني، على اعتبار أن هذه الإثارة تقود حتما إلى ما نراه الآن من فتن ومحن، وقد أحسنت الدولة المصرية في إغلاق مجموعة من القنوات الدينية الفضائية التي تبث محتوى يساعد في إيقاظ الحس الديني المتعصب ويبث نسخة منغلقة من الإسلام، فالاستقرار وحماية منجزات الدولة الوطنية أهم من ترك حرية التعبير لمن لا يهمه في الدنيا إلا أن يثبت أن الحروب الصليبية ما زالت قائمة!

بعيدا، وقريبا في الوقت نفسه، من الحدث الدامي، يجب القول إن ما جرى في كنائس العراق ومصر، وهواجس المسيحيين في لبنان وسورية، كلها تصب في إطار أزمة أكبر هي أزمة الدولة والمواطنة الحديثة، وبهذا المنظار فهي أزمة لا تخص المسيحيين لوحدهم، بل جميع سكان العالم العربي. نعم هناك أزمة حادة في عافية الوطنية ونجاعة الدولة الحديثة ومدى إقناعها لسكانها بنهائيتها!

في أوقات الأزمات التي تتعلق بالهوية، مثل وقتنا هذا، تصبح الأقليات عرضة للهجمات والتخوين، بسبب أنها الحلقة الأضعف، وبسبب يقظة الحس الغرائزي الجمعي، أو توحش الجموع، حدث ذلك في أكثر من مكان بالعالم وليس لدى العرب فقط، ولكن دوما كان هناك رجال علم وعقل ودولة يجنبون العباد والبلاد نيران الفتن، وهمجية الجماهير.

يحدثنا التاريخ عن شخصية عظيمة هي شخصية الأمير والعالم والفقيه و«المجاهد» ضد الاستعمار الفرنسي، هو الأمير عبد القادر الجزائري (توفي 1883)، الذي نازل الفرنسيين في «وهران» الجزائرية سنين طوالا، وأسر منهم، ثم أسروه، وانتهى به المطاف ضيفا على بلاد الشام، يؤلف في التصوف، ويفسر القرآن.

في دمشق، وتحديدا في سنة 1860، اندلعت فتنة دينية كبرى بين المسلمين والمسيحيين، لم تلبث أن تحولت إلى حملة مطاردة واسعة للمسيحيين، وبدأ الذبح على الهوية، عندها ركب الأمير عبد القادر، ووقف يصرخ بين الجموع، بكل جلاله وهيبته، متحديا العوام الغاضبين: «الأديان أجل وأقدس من أن تكون خنجر جهالة أو معول طيش». (عبد الباقي مفتاح، حوليات التراث، الصادرة عن كلية الآداب والفنون - جامعة مستغانم، العدد 40، سبتمبر 2005).

يذكر الباحث مفتاح أن إمام الطريقة النقشبندية، الشيخ شامل (توفي 1871)، الذي «جاهد» ضد الروس 30 سنة، ثم سجن، يرسل إلى عبد القادر، وهو في سجن الروس، رسالة يهنئه ويشكره فيها على دفاعه عن نصارى الشام لمّا ظلموا. ويجيبه الأمير العالم شاكرا، ومن ضمن ما قاله في رسالته: «إنا لله وإنا إليه راجعون على فقد أهل الدين، وقلة الناصر للحق والمعين، حتى صار يظن من لا علم له أن أصل دين الإسلام الغلظة والقسوة والبلادة والجفوة».

وفي نفس الموضوع يكاتبه أسقف الجزائر «بافي»، شاكرا صنيعه، فيجيبه الأمير برسالة يقول له فيها: «ما فعلناه من خير للمسيحيين، ما هو إلا تطبيق لشرع الإسلام واحترام لحقوق الإنسان». لاحظ عبارة احترام حقوق الإنسان!

لو قرأ القتلة الجهلة عن تاريخ العرب المسيحيين، لعرفوا كيف كان نصارى العرب جزءا حيويا من التاريخ والثقافة العربية والإسلامية نفسها! لكن السطحية والتعصب داء أعيى الأطباء.

عالم جليل من علماء العرب المسيحيين هو المؤرخ والعلامة الراحل نقولا زيادة، يقول في كتابه الممتع «المسيحية والعرب»: «نحن عرب بقدر ما هو كل مقيم في أرض العرب عربي، وأنا لا أريد أن أذكر دور المفكرين العرب المحدثين في الكشف عن التراث الإسلامي العربي الضخم، فهذا أمر يجب أن يكف عنه لأننا إنما نحن نقوم بذلك كشفا عن تراثنا، نعم هذه حضارتنا التي بدأ العمل فيها قبل نحو ستة آلاف سنة على أقل تعديل».

[email protected]