تونس والصدمة.. الخلاقة!

TT

في زمن عولمة الإعلام، بات من المستحيل على أي بلد ألا يتصدر نشرات الأخبار حتى لو كان ذلك البلد غير مرشح نظريا لذلك، بحكم ابتعاده عن بؤر التوتر. ولأن كل مجتمع مهما كان مستقرا أو متقدما أو قاطعا لأشواط ضخمة في الديمقراطية فإنه تنطبق عليه المقولة الخلدونية التي مفادها إنما الأيام دول؛ إذ إن استمرار الهدوء والاستقرار هو ضد الطبيعة الحية للمجتمعات.

لذلك فإن تصدر تونس قائمة الأحداث وأن تكون محط أنظار العالم طيلة الأيام الأخيرة بسبب أحداث سيدي بوزيد، يمكن اعتباره مخاضا اجتماعيا جديا، ينبئ بفترة مقبلة يتخذ فيها الاستقرار معاني أعمق.

من هذا المنطلق، فإن ما حدث في ولاية سيدي بوزيد مؤخرا، الذي لاقى تضامنا اجتماعيا من فئات عدة، كان يمكن أن يحدث في أي مكان من العالم، فالشرارة الأولى للأحداث هي تصرفات فردية غير لائقة من طرف أعوان البلدية. والشاب محمد البوعزيزي على الرغم من حيازته شهادة جامعية فهو مثال للشاب التونسي ذي القلب النابض؛ حيث لم يتوان عن بيع الخضار موليا إخلاصه لقيمة العمل أولا وأخيرا. وأغلب الظن أن كل من يقبل بهذه الأعمال هو نفسيا على يقين بظرفية وضعيته تلك، وأن العمل المناسب لاختصاصه سيأتي وإن طال، فهو سلوك ينم عن تفكير إيجابي يستبطن تفاؤلا. وهي حلقة مهمة، حسب اعتقادي، فالشاب لم يحرق نفسه لأنه عاطل عن العمل وإلا لكان فعل ذلك قبل أن يتعرض للمعاملة السيئة من طرف أعوان البلدية، التي هي أكثر من سبب مباشر للانفجار. فأمثال البوعزيزي ممن يرفضون البطالة ويشغلون أنفسهم بالعمل الموجود كثيرون في العالم وفي العالم العربي، وأتذكر أنني ركبت أكثر من مرة في سيارات تاكسي في مصر، يقودها أصحاب شهادات الماجستير وأعلى منها.

وهذا لا يعني أن البطالة وضع عادي، بل هي قنبلة موقوتة وسبب كاف للانشقاق الاجتماعي وحتى السياسي؛ لذلك فإن النظرة الإيجابية تقتضي التفكير في ما بعد أحداث سيدي بوزيد، باعتبار أن المخاض سيثمر عن تغير نوعي في الممارسات وفي الثقافة الإدارية السائدة وفي تحريك ضمير جميع أطراف المجتمع المدني وعلى رأسها أحزاب المعارضة التي لا يفكر أغلب المنتمين إليها سوى في مصالحهم الضيقة، مهملين دورهم كأحزاب معارضة، إضافة إلى أن الوعي بأن الشباب فئة عمرية ليست مجرد كلمة كما قال بيار بورديو (في سياق آخر ومعنى آخر طبعا) بل إنهم أكثر الفئات الاجتماعية توقا للتغيير الاجتماعي وهو ما يتعارض مع وضعية البطالة التي تنهش البنية النفسية وتجعلها مخترقة من اليأس وغيره.

مثل هذا الوعي من المهم أن تتعاطى معه وسائل الإعلام التونسية بأكثر جدية ومسؤولية وضمير، أي أن يكون الولاء الأكبر ليس للإعلانات بل للمواطن وللشباب ولمشكلاتهم وأن يكون الإعلام العين التي تلتقط كل صغيرة وكبيرة وتسلط عليها الضوء. فالواقع أن الإعلام في تونس ليس سلطة ولا يمثل مصدر هيبة ولو كان أعوان البلدية الذين أساؤوا معاملة الشاب الذي أحرق نفسه يشعرون بخطورة الإعلام في بلادهم ربما لكان سلوكهم أكثر انضباطا ولما دفعوا بالشاب في لحظة جنونية إلى أن ينفصل عن ثقافته وعن ثقافة بلاده ومجتمعه ويتبنى ثقافة الانتحار والحرق الدخيلة على المجتمع التونسي. ولعل المطلوب من أساتذة وطلبة معهد الصحافة وعلوم الأخبار في تونس أن يقوموا ببحوث يتناولون فيها كيفية تعاطي وسائل الإعلام في تونس مع أحداث سيدي بوزيد.

هناك مسألة أيضا لا بد من الإشارة إليها، هي أن وجود مشكلات في تونس على رأسها مشكلة البطالة وإقدام 3 شبان على الانتحار، من المهم أن يعالج في سياق واضح ومن دون الوقوع في الخلط والسلبية القاتمة. فالقدرة على التمييز ضرورية، خصوصا بالنسبة إلى من ينتمون إلى النخبة؛ ذلك أن تونس، بصوت عال يستمد نبرته من الواقع، هي بالفعل رائدة في الكثير من المجالات الحيوية مثل التعليم والصحة والمرأة، وقطعت أشواطا مهمة في مشروع بناء الدولة الوطنية الحديثة ويجب أن تكون هذه الأشواط محل تقدير التونسيين أنفسهم قبل غيرهم، التي هي مكاسب جميع التونسيين دولة ومجتمعا ونخبا.

وفي مقابل المكاسب، هناك الكثير مما يجب تكثيف الاهتمام به وأيضا ما يجب إعادة النظر في طرائق المعالجة والمفتاح الأساسي للاستفادة كأي مجتمع إيجابي وقوي مما حصل في سيدي بوزيد هو الاقتناع بأن وجود مشكلات أو حصول مشكلة أو أزمة أو أحداث لا ينقص شيئا من تونس المجتهدة على الرغم من تواضع إمكاناتها المادية والعريقة في التحديث وفي التنمية الاجتماعية، شأنها في حدوث أزمات شأن كل البلدان التي صورها بالأبيض والأسود، أي غير ملونة.

إن الوعي بأننا نعيش بالفعل في زمن الإعلام ووسائط الاتصال الحديثة يجب أن يتغلغل في الذهنية السياسية والإعلامية في تونس؛ حيث آن الأوان أن يعاد بناء مفهوم الإعلام ودوره من خلال جعل كل الأطراف أحزابا ووسائل إعلام تنخرط في مهمة الحفاظ على الاندماج الاجتماعي برفع سقف النقد وقيام الصحف التونسية بتفعيل التشريعات الخاصة بمجال حرية التعبير والتمسك بها والعمل على فرضها في واقع الممارسة الإعلامية فهو واجبها الأول وإيقاظ الضمير من سبات اللامبالاة والاستقالة المقنعة جوهر العمل الإعلامي.

إنه لمن المهم نفسيا وثقافيا أن نتعود على تصوير الواقع بالأبيض والأسود، وتونس، كما يعرفها أهلها والعالم، ستستوعب المخاض الذي سيجدد شرايين الدولة والمجتمع ومكونات المجتمع المدني.