ماذا تغير في العالم؟

TT

بدأ عقد آخر من القرن الواحد والعشرين؛ ومع بداية العام الجديد فإن الحساب الذي اعتاد عليه الناس هو عما إذا كان تغييرا قد حدث، ومدى عمقه بحيث يصبح علامة من علامات السنين الفارقة بين زمن وآخر. والحقيقة هي أن الزمن ليس ساعات ودقائق وأياما وسنوات بقدر ما هو تاريخ تجري فيه الأحداث من خلال صيرورة مستمرة تمتد أصولها في الماضي وتجري نتائجها في المستقبل. ولذا فإن العقد الثاني ليس منفصلا عن العقد الأول، ولم تكن بداية الألفية الثالثة خطا فاصلا مع ما سبقها من ألف عام.

خذ مثلا أنه حدث انتقال من الحرب الباردة إلى الحرب الساخنة في العقد الأخير من القرن العشرين، فمع انتهاء الحرب الباردة بتفكك وانهيار الاتحاد السوفياتي وانفراد الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولي تصاعدت نزعة التدخل الدولي بالقوة أو الاستخدام القسري لها بدعوى الأغراض الإنسانية، وهو ما وجد حالات تطبيقية له في العراق في عام 1991، مرورا بالصومال في عام 1992، ثم رواندا وهايتي في عام 1994، وانتهاء بكوسوفو وتيمور الشرقية في عام 1999. وعاد ذلك بقوة مع العقد الأول من القرن الواحد والعشرين في عهد إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، حيث وعد منذ البداية بزيادة حجم الإنفاق العسكري الأميركي. ومع وقوع أحداث 11/9، تمثل مبدأ بوش في أن الحرب على الإرهاب لها الأولوية في السياسة الخارجية. وقد حدد بوش ملامح مبدئه ضد الإرهاب في 20 سبتمبر (أيلول) 2001، حيث ذكر أن كل دولة في أي منطقة من العالم عليها أن تتخذ قرارا سواء أن تكون معنا أو تكون مع الإرهابيين. وأنه من الآن فصاعدا فإن أي دولة تستمر في توفير الحماية والمأمن للإرهاب سوف تعتبر نظاما معاديا للولايات المتحدة. ومن هنا، جاء القرار من داخل الإدارة الأميركية وخارجها بضرورة إسقاط نظام طالبان في أفغانستان (2001) ونظام صدام حسين في العراق (2003). كما اتضح عودة اللجوء إلى القوة العسكرية أثناء المواجهة الروسية - الجورجية، التي اندلعت إثر القصف الذي قامت به جورجيا لأوسيتيا الجنوبية في 8 أغسطس (آب) 2008. ورغم ما بدا حينذاك أنها أزمة إقليمية، فإنها سرعان ما تطورت إلى أزمة دولية بعد التصعيد الروسي ورغبتها في استعادة مناطق النفوذ التقليدية لها واستعدادها لدخول مواجهات مع الولايات المتحدة. وفى الشرق الأوسط فإن إسرائيل شنت حربين، واحدة في لبنان في صيف عام 2006؛ وبعد عام ونصف العام كانت تشن حربا أخرى في غزة.

تغير آخر تمثل في عودة دور الدولة كفاعل رئيسي في العلاقات الدولية، فلم يعد ممكنا تجاوزها من المنظمات الدولية، والشركات متعددة الجنسية، والمنظمات غير الحكومية، فباتت الدولة لا يمكن تجاوزها، وهو ما أدى إلى إعادة الاعتبار لمنظور المدرسة الواقعية، الذي يعتبر الدولة وحدة التحليل الرئيسية في العلاقات الدولية وهي أهم الفاعلين على الإطلاق. ولم تكن هذه الأهمية راجعة إلى ضرورات الأمن القومي كما هو معتاد، وإنما برزت الحاجة إلى إيجاد صيغ أخرى للأمن، يكون مجهزا للتعامل مع الأزمات الإقليمية، والكوارث الطبيعية، وأزمة الغذاء وأزمة الطاقة وأزمة التلوث البيئي، وغيرها من الأزمات التي تؤثر على الحياة المعيشية للبشر. كما أن الاتجاه الرئيسي في أدبيات العلاقات الدولية والقانون الدولي يتجه الآن إلى إعادة تعريف السيادة الوطنية لكي لا تكون في المقام الأول احتكارا للسلطة من جانب الدولة، وإنما تتمثل في المسؤولية عن حماية المواطنين، بواسطة الدولة أولا، أو بواسطة الآخرين إذا فشلت هذه الدولة. ويفتح هذا التفسير الباب على مصراعيه لاستخدام ما يسمى حق التدخل الإنساني، عن حسن أو سوء نية، ولم تستطع الأجندة الدولية حسم هذا الموضوع حسما نهائيا حتى الآن، بل من المتوقع أن يستمر إدراجه كبند دائم النقاش لسنوات قادمة، خاصة في ضوء عدم الأمن الذي تشعر به الكثير من الدول، لا سيما مع فشلها في القيام بوظائفها والاضطلاع بأدوارها. ومن هنا، دخل مفهوم «الأمن الإنساني» بنود الأجندة الدولية، لكي ينافس - إن لم يحل محل - مفهوم الأمن القومي.

التغير الثالث أبرز محورية العامل الثقافي في العلاقات الدولية، مع ظهور طروحات «صدام حضارات» أو صراع ثقافات، حيث توجد مؤشرات محددة بشأن تنامي المشاعر المتطرفة والعداء للآخر والميول المضادة للعولمة على نطاق واسع يتم التعبير عنها بالصور النمطية عن «العرب والمسلمين الشرق أوسطيين» في العقل الغربي عموما والأوروبي خصوصا، وبالتالي تصبح ساحات المعارك الثقافية والتصورية لا تقل أهمية عن ساحات المعارك العسكرية والدبلوماسية. وثمة مؤشرات تعبر عن ذلك مثل انفجار أزمة الرسوم الكاريكاتيرية الدنماركية والهولندية مع العالم العربي والإسلامي، وأزمة المآذن في سويسرا وبناء مسجد «مثير للجدل» في الولايات المتحدة. بخلاف مشكلة الإرهاب، حيث يوجد تيار في السياسة الأوروبية يتجه حاليا نحو المساس بالإسلام كدين، مع الحديث عن إرهاب المسلمين، خاصة في ظل العمليات الدموية التي شهدتها مدريد ولندن، والتحليلات التي تبعتها. ورغم أن مشكلة الإرهاب يمكن أن تفتح مجالا للحوار بين الحضارات والثقافات المختلفة حول أفضل سبل التعامل مع هذه المشكلة المعقدة، فإن التعميم العشوائي والتصور النمطي الغالب على الطرفين الغربي والعربي من شأنه أن يقلل من فرص الحوار ويزيد من احتمالات المواجهة بالقوة العسكرية، وفي ذلك ما فيه من مخاطر على مستقبل الأمن والاستقرار الدوليين وليس فقط على مستقبل الحوار والتعاون بين الحضارات.

التغير الرابع ظهر في تصاعد أدوار تكنولوجيا الاتصال والتقنيات الحديثة في السنوات الأخيرة، في مجالات عدة ونواح مختلفة، لحياة البشر في مختلف أنحاء المعمورة، واختزلت الزمن والمسافة، لدرجة أنها خلقت عالما بديلا أو افتراضيا موازيا بدرجة ما إلى العالم الواقعي، وهو ما جعل مجلة «التايم» الأميركية تختار «مارك زوكربرغ» مؤسس موقع «فيس بوك» للتواصل الاجتماعي شخصية العام 2010، وتعرف المجلة شخصية العام بأنها «الشخص الأكثر تأثيرا على مجريات أحداث العام سلبا أو إيجابا». ووفقا لرؤية المجلة، فإن «زوكربرغ أسهم من خلال الموقع الشهير في تغيير حياة مئات ملايين البشر عبر خلق نظام جديد لتبادل المعلومات». فقد بلغ عدد مشتركي «فيس بوك» 500 مليون مشترك يرتبطون ببعضهم. وامتد هذا التطور إلى مجالات مختلفة، ومنها الصحافة الإلكترونية التي باتت تتربع على عرش الصحافة العالمية بل هددت الصحافة الورقية، لأن الصحافة الإلكترونية الحديثة تعتمد على تقديم محتوى تحريري مختلف عبر العرض للقارئ من خلال الوسائط، وقبل أن ينتهي العام الأخير من العقد الأول كان موقع «ويكيليكس» ينبئ بأن الدنيا لم تعد كما كانت.