.. أبعد من جريمة الإسكندرية

TT

التحقيقات في التفجير الذي استهدف كنيسة القديسيْن بالإسكندرية ما تزال في بداياتها، لذلك من الصعب الجزم بمن يقف وراء الجريمة النكراء، وبالتالي ليس من الحكمة إطلاق الاتهامات جزافا حتى لا يسهم المرء في صب الزيت على النار. صحيح أن تنظيم القاعدة ممثلا في ما يسمى بـ«دولة العراق الإسلامية» سبق أن هدد في عدة بيانات خلال الشهرين الماضيين باستهداف المسيحيين في مصر، كما نشرت بعض المواقع المحسوبة على «جهاديين» عناوين لعدد من الكنائس في مصر من بينها كنسية القديسيْن بالإسكندرية داعية لاستهدافها أثناء احتفالات الميلاد، لكننا بتنا نعرف أن «القاعدة» لم تعد تنظيما بالمعنى الدقيق للكلمة، بل أصبحت مجرد لافتة تتحرك تحتها تنظيمات مختلفة لا جامع بينها سوى التطرف والإرهاب، وأحيانا ربما تستخدم هذه اللافتة من قبل جهات مشبوهة تريد زرع الفتن والمشكلات وضرب استقرار المنطقة.

«القاعدة» بالطبع ليست مبرأة من مثل هذه الجريمة، لأن الفعل وطريقة التنفيذ يشبهانها، وهي واللافتات التي تعمل في إطارها تريد هز الاستقرار وإشعال الفتن الطائفية كما حاولت وما تزال تحاول في العراق لإشعال حرب بين السنة والشيعة، أو خلق توتر بين المسلمين والمسيحيين مثلما رأينا في مجزرة كنيسة سيدة النجاة في بغداد في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وهي المجزرة التي حذر في أعقابها التنظيم الذي يسمي نفسه «دولة العراق الإسلامية» باستهداف أقباط مصر بحجة أن هناك امرأتين أسلمتا فاحتجزتا في سجون أديرة مصرية. ولا بد من القول هنا إن «القاعدة» لا تستهدف المسيحيين دفاعا عن الإسلام أو المسلمين، فهي قد استهدفت أيضا المساجد وقتلت من المسلمين أكثر مما قتلت من غيرهم. لكن سواء كانت «القاعدة» هي اليد المدبرة للجريمة المروعة في كنيسة القديسين، أم أن جهة أخرى تقف وراءها، فإن هناك مسألة أبعد وأهم، وهي الظروف التي تهيئ لمن يريد تحريك الفتن الطائفية وضرب الاستقرار ووحدة أوطاننا.

إن مصر مستهدفة بلا شك خصوصا أنها تمر بفترة صعبة متوترة ترى فيها أي جهة تريد ضرب استقرار البلد وأمنه فرصة سانحة، وملف الفتنة الطائفية يمثل كعب أخيل الذي سيصوب نحوه كل من يريد استهداف وحدة البلد وتمزيق نسيجه الاجتماعي بإشعال مواجهات عنيفة بين مسلميه ومسيحييه. ففيروس الفتنة الطائفية يتنامى منذ فترة ليست بالقصيرة، وقد وقعت أحداث كثيرة خلال السنوات الأخيرة نتجت عن عملية الشحن المتواصل والتطرف المتصاعد. هذه الأحداث كانت نتيجة تراكمات تعود إلى بداية السبعينات وربما قبل ذلك. فإقحام الدين في الاستقطاب السياسي واستخدامه كورقة ضغط أو مساومة فتح الباب لتسلل التطرف، كما فتح نافذة أمام الطائفية، في بلد عاش مسلموه ومسيحيوه في أمن وتلاحم منذ فجر الإسلام. ولا شك أن ظروف الكبت السياسي وغياب حرية التعبير أسهمت في تغذية التطرف ومنعت التعامل الواعي والجريء مع ملف الشحن الطائفي.

ورغم أن عقلاء كثيرين حذروا منذ سنين عديدة من التعامل مع المسيحيين من منطلق أنهم ذميون وليس من واقع أنهم مواطنون وكفى، فإن الخطاب السائد حتى اللحظة، ليس في مصر وحدها بل في عالمنا العربي كله، هو الخطاب الذي يتبنى الحديث غير المبصر عن أغلبيات وأقليات. فمنطق الأقلية والأغلبية في الأوطان هو في الواقع خنجر مسموم ينكأ جراحها، ويفتت وحدتها، ويفتح مساماتها لدخول جراثيم الطائفية وأمراض التطرف. فمجرد كلمة أقلية تشعر أي إنسان بالقلق والتوجس وتجعله في موقف المدافع عن نفسه والخائف على وجوده.

إذن ما هو المطلوب؟

مفهوم المواطنة هو المدخل الصحيح لتحصين المجتمعات، من منطلق أن الكل، مسلمين ومسيحيين، سنة وشيعة، عربا وأكرادا وأمازيغ (على سبيل المثال لا الحصر)، مواطنون لهم كامل الحقوق وعليهم جميع الواجبات، ما دام أنهم ينتمون للبلد ويرعون حرمة الوطن. فالمواطنة الكاملة هي التي تصون حقوق الإنسان، وتحفظ له كرامته وإنسانيته، وتعزز انتماءه إلى بلده بغض النظر عن عرقه أو دينه أو مذهبه.

السودان نموذج ماثل أمامنا اليوم لما يمكن أن يحدث للأوطان عندما يفشل تعميق مفهوم المواطنة، ويتعامل الناس بمنطق الأغلبية والأقلية، وبلغة هذا مسلم وذاك مسيحي بين أبناء البلد الواحد. العراق نموذج حي آخر ماثل أمامنا لما يمكن أن يصيب الأوطان عندما يسود الفكر الطائفي وتعلو نغمة هذا سني وذاك شيعي، وهذا عربي وذاك كردي. ولبنان قد يكون أكبر شاهد على ما يمكن أن يحدث للأوطان عندما تسود لغة الطائفية، إذ أوهنه خطابها ومزقته حروبها، وما تزال تنهش في جسده الصغير.

إن مصر قد تختلف عن لبنان والعراق والسودان، لكنها بالتأكيد ليست محصنة من أخطار فيروس الفتنة الطائفية. ولعل الأحداث الأخيرة تدفع الناس للتفكر في كيفية معالجة هذا الملف لا بمنطق التسكين، وإنما بمنطق البحث عن العلاج الشافي والتحصين الواقي الذي يمثله تغليب مفهوم المواطنة الكاملة على لغة الأقليات والأغلبيات التي زادت الأوضاع سوءا. عندها لن يجد المتطرفون والباحثون عن إشعال الفتن منفذا للتسرب منه، لضرب البلد أو لإشعال الحرائق الطائفية فيه.