الدنيا لا تقف علشان مخلوق

TT

خرجت من منزلي في الصباح الباكر والدنيا تكاد أو لا تكاد تسعني مما أنا فيه من السرور والانشراح والغبطة - خصوصا (الغبطة) التي لا أدري كيف حشرت هي نفسها وجاءت على لساني، أو بالأحرى على قلمي.

المهم أنني كنت ذاهبا إلى (السوبر ماركت) لقضاء بعض الحاجة، وبينما كنت أقود تلك المركبة العجوز أخذت أبعبص بزر الراديو على أمل السماع لبعض الأغاني لتكتمل غبطتي الجامحة، وإذا بالمؤشر يقع على محطة (الإف إم) وإذا بالمطرب ماجد المهندس يصدمني بأغنيته التي لم تكن وقتها تلائم مزاجي المصهلل بأي حال من الأحوال، والتي يقول فيها:

* حبك قتلني محمد -

يا عيوني يا حمودي

* لا آكل ولا أشرب

ودموعي فوق خدودي

* ووجدت أن كلمات تلك الأغنية قد كتبتها، أو من المفترض قد كتبتها، امرأة لأن الكلمات تتغزل برجل اسمه محمد، فمن الملائم إذن أن تغنيها امرأة، إلا إذا كان ماجد يوجه الكلام لطفله الذي اسمه محمد، فأخذت بالظن الحسن، كعادتي بتلمس الأعذار لكل الناس، ولولا ذلك لمت كمدا، اليوم قبل بكرة، وهذا هو الزاد الذي أقتات عليه يوميا - أي الظن الحسن - غير أن مزاجي مع ذلك قد بدأ يتعكر، خصوصا عندما تذكرت صديقا لا ديدن له في هذه الحياة الرحبة غير البكاء، فهو بدون مبالغه بكّاء من الطراز الأول، إلى درجة أنني لو قلت له نكتة، أو حتى (زغزّغته) في بطن قدمه، يضحك وكأنه يبكي ويتعبّر، ثم يتبعها بجملة تقليدية: اللهم اكفيني شر الضحك اللهم أجعله خير.

وإذا قلت له: أي خير ترجوه وأنت في هذه الحال؟!

فيرد علي قائلا: إن الأطباء النفسانيين يؤكدون أن البكاء هو الأسلوب والعلاج الوحيد الناجح الذي من شأنه تحرير الجسم من المواد الكيميائية المؤذية التي يولدها الغم.

قلت له: من كثرة ما شاهدت من دموعك المدرارة، ومن كثرة ما سمعت من (جعيرك) الذي يخرق طبلة الأذن حين تبكي، لم أجد أن الغم قد زال عنك، بل إن حياتك كلها أصبحت غما على غم، حتى إنني إذا أردت أن أنْغمّ (حبتين) أتيت عندك.

ولا أنسى أنه عندما يضيق ذرعا بتدخلاتي في حياته الشخصية يردد بيت الشعر الشعبي القائل:

* مخلوق أنا والحزن مخلوق فيني -

ولا تقف الدنيا علشان مخلوق

* والآن ها أنذا أكتب هذه الكلمات بعد أن رجعت من (السوبر ماركت) خالي الوفاض تقريبا؛ اللهم إلا من علبة (لوز) وزجاجة من ماء (التونك).

وإنني والله لفي حيرة، لماذا لم يصبني الغم، رغم أن عيوني ناشفة من أي دموع، وهي تكاد تكون كمنطقة في صحراء (تشيلي) التي لم تسقط عليها ولا قطرة مطر واحدة منذ القرن السادس عشر الميلادي؟!

وتفسيرا لحالتي (المنفلتة) هذه – إن جاز التعبير - فهي لا تتعدى احتمالين لا ثالث لهما:

1 - إما أن أكون إنسانا غير طبيعي. 2 - أو أنني مؤجر الطابق العلوي من نافوخي وأنا لا أعلم، وهذا هو الأرجح، وأكبر دلالة أنني أكتب لكم الآن هذه الكلمات غير المترابطة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

وإذا كان هناك من استفادة استفدتها من بيت الشعر الذي تفوه به ذلك الإنسان البكاء الحزين، هي: أن الدنيا فعلا لا تقف علشان مخلوق.

(ويا داره دوري فينا)، واللي ينزل من السماء، تستلقاه الأرض.

[email protected]