الفيدرالية من مدريد إلى الرمادي

TT

كلما ترسخت الديمقراطية في العراق، وثبتت أركانها، وأصبح تقاسم السلطات تقليدا سياسيا في البلاد، ازداد دعاة الفيدرالية ومساندوها. وبعد فصل من التردد ها هم السنة أيضا، بدأوا يفكرون في إقليم خاص بهم في المنطقة الغربية كما تواترت الأنباء، وهكذا فإن الفيدرالية في العراق، سرعان ما تحولت من فكرة طرحت ضمن محاضرة للرئيس طالباني في العاصمة الإسبانية مدريد عام 1987، إلى خيار سياسي لمكونات الشعب العراقي.

لقد طرح الرئيس الفكرة قبل 23 عاما، وهي مدة زمنية تعتبر قصيرة قياسا بعمر التاريخ، ولا تكفي كي يتمكن زعيم ما خلالها من تحويل فكرة إلى استراتيجية سائدة، في بلد متعدد المكونات كما فعل ذلك طالباني، حينما تبنى الفيدرالية في محاضرته المشار إليها، التي أصبحت استراتيجية لدى الحركة الكردية، حيث أعلنها البرلمان الكردستاني في 4/10/1992 حلا لعلاقة الكرد مع المركز، ثم تبنتها المعارضة العراقية لتثبتها فيما بعد (أي الفيدرالية) في برامج مؤتمراتها في نيويورك ولندن، كمشروع وطني عراقي إلى أن تم في نهاية المطاف ضمان أرضية قانونية لها، عندما تم تثبيتها في الدستور الدائم عام 2005.

ومنذ ذاك، أخذ طيف واسع من الشيعة يبدي رغبة في تطبيقها، كما في محافظة البصرة التي تشهد حراكا «فيدراليا» مستمرا، كما أن المنطقة الغربية بدأت أخيرا تتحرك بهذا الاتجاه. والواقع أن تأخير تطبيق الفيدرالية، مرده أن الأرضية القانونية سبقت الرضا الشعبي عن الفيدرالية لدى العراقيين.

تأريخيا فإن المكون الشيعي الذي تعرض للظلم الطائفي، وكذلك تعرضت مناطقه إلى الإهمال التنموي المتعمد، من قبل سلطة مركزية غارقة في الطائفية السياسية، كان ولا يزال أكثر تقبلا لفكرة الفيدرالية، ذلك لأن الظلم والتعسف ينتج على الأغلب وعيا سياسيا مركبا لبلورة الحلول للمعضلات السياسية. ولكن ما أخر تطبيق الفيدرالية في الجنوب، سببه عاملان اثنان:

* اختلاف أولويات الشيعة، أو بالأحرى أولويات القوى الشيعية الرئيسية، مقارنة مع أولويات الكرد، حيث كان وما زال الهدف الرئيسي لتلك القوى هو العمل على إعادة هيكلية الدولة العراقية بما يضمن عدم تكرار هيمنة فئوية، كانت على الأغلب هيمنة سنية.

* ظهور ما يمكن أن يطلق عليه نزعة «الأكثرية» بين أوساط كثيرة منهم، يعتقدون بأنه لا حاجة إلى إقامة أقاليم فيدرالية في الجنوب، طالما أنهم أكثرية وأن صولجان الحكم بداهة سيكون معقودا لهم.

والآن يبدو أن تغييرا قد طرأ على هذه التوجهات، وذلك نتيجة عاملين اثنين:

- ظهور قيادات محلية في المحافظات الجنوبية تطمح إلى تشكيل فيدراليات في المناطق الشيعية، منها القيادات المناطقية للأحزاب، ومسؤولو المؤسسات الإدارية في حدود تلك المحافظات.

- بقاء نزعة المركزية على حالها داخل الوزارات ومؤسسات الدولة في العاصمة، هذه النزعة التي أدت إلى تلكؤ المشاريع والإيفاء بمتطلبات التنمية الإقليمية، لأن ثقافة البيروقراطية ظلت أقوى من القاعدة القانونية التي دفعت باتجاه اللامركزية، مما أدى إلى تبلور الحاجة إلى الفيدرالية من جديد.

إن التقاليد المركزية المتجذرة في الإدارة المعمول بها في العراق، دفعت بعض المحافظات إلى إعادة النظر في الخيارات المطروحة أمامها، وخصوصا في خضم سجالات تشكيل الحكومة، التي لم تصب الحكومة وحدها بالشلل بل أصابت سير الإدارة والخدمات أيضا، لأن النخب السياسية في بغداد فشلت في فصل المسار السياسي عن المسار الإداري والخدماتي.

أما بالنسبة للسنة، فإن ثمة عوامل أخرى جعلتهم يقتربون من خيار الفيدرالية شيئا فشيئا في هذه الظروف بالذات، إذ إنهم يتوجسون من تكريس الهيمنة السياسية للشيعة على العاصمة، وربما يؤدي في المستقبل إلى امتداد نفوذ تلك الهيمنة إلى مناطقهم خاصة أنهم يعرفون قبل غيرهم تاريخ العراق الحديث، والاستخدام المفرط لسطوة الدولة باتجاه تغييرات ديموغرافية وإدارية، لعدد كبير من المناطق التي ما زالت تعاني من تداعيات تلك السياسات. وفي الواقع فإن المادة (140) من الدستور الدائم، إنما أتت لمعالجة آثار مثل هذه التغييرات، التي حولت الدولة من جهاز محايد فوق المكونات إلى قوة ضاربة لصالح هذا الطرف أو ذاك. من هنا فإن السنة استذكارا لهذه السيرة المنحازة للدولة، لا يريدون أن يصبحوا كالكرد والشيعة، مرة أخرى ضحايا ممارسات كهذه.

لقد أضاع هذا المكون المهم فرصة أمدها سبع سنوات، كانوا غارقين خلالها في وهم الحفاظ على المركزية، التي كانت بلا شك المركزية المطواعة لهم، ولكنهم الآن باتوا يتوجسون خيفة منها، لأنها ببساطة شديدة إن تحققت، فيفترض أن تكون شيعية هذه المرة. وطبيعي جدا، أن الخوف يلعب في بعض الأحيان دورا في تأطير الخيارات السياسية لمكون أو طائفة ما، وربما يكون هذا الأمر ينطبق على السنة في هذه المرحلة من ناحية توجههم نحو الفيدرالية على مضض. ولكن الطرح السياسي الناجح والمثمر، ينبغي أن يكون طرحا من أجل نقلة في النجاح والتقدم، وليس خيارا دفاعيا لدفع الأذى أو الخوف. وبمعنى آخر، ينبغي أن يخطو السنة خطوة أخرى نحو الأمام، ليصبح خيار الفيدرالية لديهم طريقا للتنمية وترسيخ الديمقراطية وسقفا أعلى لإنجاز الحقوق والمطالب المشروعة لهم، لا أن يكون آخر وسيلة للحد من تراجع مفترض في العملية السياسة.

وعلى هذا الأساس، فإن الفيدرالية ستصبح الترياق الشافي لجميع مكونات الشعب العراقي، وإن القبول الشعبي بها في كل من البصرة والكوت، وتنامي النزعة اللامركزية في النجف، والخصوصية التاريخية للتفرد التي يتصف بها المجتمع الموصلي، كل هذه الأمور ليست إلا سبلا لتنفيذ دستور البلاد الدائم، ولا يستدعي ذلك أن يتقبل السنة هذا الأمر على مضض أو أن يرفضوه مكابرة.

فلو سلكت هذه المسيرة طريقها الحقيقي، فإن كرد إقليم كردستان في صراعهم القادم مع المركزية في بغداد لن يكونوا وحيدين، بل سيجدون الكثيرين من العراقيين حلفاء موضوعيين لهم.

* كاتب كردي ورئيس تحرير صحيفة «كردستاني نوي»