السودان.. انفصال بإحسان خير من وحدة بالعنف والقوة!

TT

إذا سارت الأمور في هذا المنحى المريح، وإذا لم تطرأ مفاجأة كارثية عند أحد المنعطفات السيئة، فإن انفصال جنوب السودان عن شماله سيكون تجربة فريدة، ليس في هذه المنطقة وحسب، بل في العالم كله.. فالواضح، حتى الآن، أن السودانيين، خاصة الشماليين، الذين لجأوا إلى تنكيس علم الدولة الواحدة في آخر ذكرى للاستقلال، كإشارة على حزنهم إزاء ما سيحدث، يتعاملون مع الأمور بأريحية أهل هذه البلاد وطيبتهم وتقبلهم لما أصاب بلدهم على أنه قضاء الله وقدره.. ولا مرد لقضاء الله وقدره.

كانت التقديرات والتوقعات تشير إلى أن السودان، قبل يوم الاستفتاء أو خلاله أو بعده مباشرة، سوف يستحضر كل حروب الماضي في حرب واحدة ستكون مأساوية ومدمرة فعلا، ولعل ما جعل هذه التقديرات والتوقعات بمنزلة المؤكد أن القوى المتآمرة من الخارج دأبت على الدفع والتحريض في اتجاه أن يأكل السودان بعضه بعضا وأن يدمر السودانيون بلادهم وأن يحولوا «نكبة» الانفصال إلى نكبة دموية تأكل الأخضر واليابس، على غرار ما حدث في بلدان كثيرة.

لكن هذا لم يحدث، وهو إن شاء الله لن يحدث، مع أن العوامل الخارجية كثيرة ومتوافرة لحدوثه، ومع أن أبواب المفاجآت المأساوية لم تغلق بعدُ، ومع أن أصابع المتدخلين من الخارج مستمرة بالتلاعب في السر والخفاء، فالأيام الأخيرة من عهد الدولة الواحدة والشعب الواحد أظهرت أخوة من كلا الطرفين، أي أهل الجنوب وأهل الشمال؛ حيث أكدوا من خلال تصرفاتهم وردود فعلهم أنهم متمسكون بهذه الأخوة وأنهم مصرون عليها، حتى بعد أن تصبح لهم دولتان لكل واحدة منهما هويتها وحدودها ونشيدها الخاص وذاكرتها الوطنية.

كانت التقديرات تشير إلى أن الجنرال عمر حسن البشير سوف يلتقي الجنرال سلفا كير، ليس في جوبا، عاصمة الجنوب الذي سيستقل بعد أيام، وليس في الخرطوم التي كانت عاصمة السودان كله، وإنما على الحدود المتنازع عليها، وكل واحد منهما على رأس جيشه الجرار لتنشب حرب مدمرة طويلة سيكون الخاسر فيها إما هذا الطرف وإما ذاك، ولكن لن يكون فيها أي رابح بالنتيجة.

كانت التقديرات تشير أيضا إلى أن حروبا أهلية صغيرة وكبيرة سوف تندلع في شوارع الخرطوم وأم درمان وفي كل مكان من الشمال يوجد فيه جنوبيون وفي شوارع جوبا وكل مكان من الجنوب يوجد فيه شماليون، وهذا كله بالإضافة إلى حرب المراعي بين القبيلتين الحدوديتين، قبيلة الدنكا وقبيلة المسيرية، اللتين تتنازعان أيضا على منطقة «أبيي» النفطية التي تشكل لغما موقوتا سينفجر حتما إن لم تستمر هذه الأريحية التي تمت على أساسها معالجة أمور مصيرية حساسة وخطيرة.

كان جمال عبد الناصر قد قبل بخيار طلاق سورية، التي كانت تشكل الإقليم الشمالي في الجمهورية العربية المتحدة، وفضله، على أساس القبول بالأمر الواقع، على خيار استعادة الوحدة بالقوة وهذا كله بينما كانت قوة عسكرية مضادة للانفصال بقيادة ضابط اسمه محمد إبراهيم العلي قد سيطرت على إذاعة حلب التي بقيت تبث الأناشيد والأهازيج الوحدوية إلى أن اكتشف قائدها أنه آخر مقاتل في «ممر الماراثون» وأن نهاية الوحدة التي راهن على أن عدواها ستنتقل إلى الأقطار العربية كلها قد أصبحت مسألة حقيقية، وأن قادة حزب البعث الذين هم قادته، وبخاصة أكرم الحوراني وصلاح البيطار، قد أيدوا ببيان تبريري انقلاب الضباط الذين أطاحوا بتلك الوحدة.

ربما أنه كان من الممكن أن يكون موقف جمال عبد الناصر مختلفا لو أن سورية، الإقليم الشمالي في الجمهورية العربية المتحدة، كانت جغرافياً في موقع ليبيا أو السودان، لكن بما أن عامل الجغرافيا قد كان له تأثيره الحاسم، فإن الرئيس المصري الراحل قد أدرك أن أي لجوء إلى القوة العسكرية لاستعادة تلك الوحدة سيكون مكلفا جدا؛ فإسرائيل ستتدخل بالتأكيد في اللحظة المناسبة، وستكون هناك تدخلات أخرى كثيرة، وستكون النتيجة أنه لن يستعيد هذه الوحدة وأنه في الوقت ذاته سيخسر جيشه وأنه قد يخسر أيضا حكمه ونظامه في مصر، التي كانت الإقليم الجنوبي في هذه الجمهورية العربية المتحدة.

لقد عرف التاريخ انشقاق ألمانيا وتحولها إلى ألمانيا شرقية شيوعية تابعة للاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، وألمانيا غربية رأسمالية تابعة لحلف شمالي الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة، لكن هذا كان من نتائج الحرب العالمية الثانية؛ حيث تقاسم المنتصرون الدولة التي كان يقودها أدولف هتلر، التي جرى تحميلها مسؤولية اندلاع تلك الحرب الكونية المدمرة.

ثم لقد عرف التاريخ أيضا انشقاق كوريا وتحولها إلى: كوريا الشمالية الشيوعية التابعة للاتحاد السوفياتي والصين الماوية، وكوريا الجنوبية التابعة للولايات المتحدة والمحمية من قبل القوات الأميركية التي لا تزال ترابط فيها حتى الآن، لكن هذا كان نتيجة لحرب بدايات خمسينات القرن الماضي، أي الحرب الكورية التي استمرت منذ عام 1953 وحتى عام 1955، وانتهت بهذا الانقسام الذي أوجد جبهة تماس مرتفعة الحرارة بين الاتحاد السوفياتي، الذي أصبح روسيا لاحقا، والصين من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، ثم وبالطبع فإن دول أفريقيا قد بقيت تشهد محاولات انفصال متلاحقة وفقا للجغرافيا القبائلية على غرار انفصال إريتريا عن إثيوبيا، لكن أيا من هذه المحاولات لم يتخذ هذه الوضعية الدولية التي اتخذها انفصال جنوب السودان عن شماله الذي مر بمحطات ملتهبة وانتهى بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع وفقا لاتفاقية «نيفاشا» الشهيرة.

والآن، فإن الخوف، كل الخوف، أن تنتقل عدوى الانفصال إلى منطقة دارفور، التي اجتذبت وتجتذب، بما تختزنه من احتياطي نفطي هائل، تدخلا دوليا تشارك فيه الولايات المتحدة والصين وفرنسا بصورة سافرة ومعلنة، وإلى منطقة كردفان ومنطقة النوبة وأن تتحول إلى حرب أهلية مدمرة، هذه المواجهة التي لا تزال حتى الآن سلمية سلاحها البيانات والتصريحات المتضادة بين نظام الرئيس البشير والمعارضة التي التقى في إطارها وتحت خيمتها أعداء الأمس كلهم بيمينهم ويسارهم.

وبالنتيجة، ومع أن عملية انفصال الجنوب عن الشمال تتم في أجواء يطلق عليها المستجيرون من الرمضاء بالنار وصف الإيجابية والمريحة، إلا أن ما يجب أخذه بعين الاعتبار دائما وأبدا هو أن السودان بات يواجه خطرا حقيقيا؛ إذ إن ما تبقى من وحدته غدا مهددا بالتشظي والانقسام، ولعل ما يعزز هذا الاحتمال أن هناك لعبة دولية جديدة تحدق بهذا البلد الذي وضعه قدره في هذا الموقع الجغرافي؛ حيث تحيط به دول، كلها، باستثناء الدولتين العربيتين مصر وليبيا، تحسده على هذه الخيرات كلها التي يكتنزها تحت الأرض وفوقها ومعنية بالحد من توغله كدولة إسلامية وعربية في قلب القارة الأفريقية.