لا عتب ولا غضب

TT

كلما كتبت عن غياب مصر، تضايق حضورها، طالت أعمارهم وتعزز عطاؤهم. وهل من الضروري أن يكون تقدير الماضي تقليلا من الحاضر؟ قبل سنوات قال لي الدكتور عبد المنعم سعيد: «نحن جميعا مع تقدير الكبار الذين فقدنا، لكن ألا يلوح لك في الحاضر أحد؟» وكان علي أن أكرر، أنني إذ أفتقد من يفتقد العرب جمعا وجميعا، فليس في ذلك نمة على الأحياء ولا انتقاص من الحاضر. فعندما نفتقد برتراند راسل في بريطانيا اليوم، هل يعني أنه لم يعد هناك عشرون رائعا، على الأقل، تقرأ لهم في الفكر والأدب والتاريخ؟ ولكن هل ننكر أنه ليس في فرنسا اليوم جان بول سارتر آخر أو ألبير كامو؟ لقد خرج خمسون ألف فرنسي في وداع سارتر، فمن هو الأديب الذي سيودعه 500 شخص اليوم؟

نحن نكتب عن مراحل لا عن أفراد. هناك مراحل لا تفسير لها، تماما مثل الخصب والقلة، في طمي النيل ومواسم الواحات. هناك مرحلة اسمها مرحلة الشيخ محمد عبده وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين وسعد زغلول ومصطفى كامل. وهناك مرحلة اسمها محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس، ورياض السنباطي وأحمد رامي وإبراهيم ناجي.

من هو السنباطي اليوم أو بليغ حمدي أو كمال الطويل، وبلاش يا سيدي أم كلثوم وعبد الوهاب؟ لماذا في مرحلةٍ نجيب الريحاني، وفي مرحلة أخرى ليس هناك نجيب الريحاني؟ لماذا طوال 70 عاما لم يعط لبنان إلا فيروز واحدة وصباح واحدة ووديع الصافي واحدا؟

الزمن يتغير على الجميع، لأن وتيرة الحياة تتغير. من هو الفرنسي الذي سوف يكتب سيرة «غير مكتملة» لفلوبير تقع في 2000 صفحة كما فعل سارتر؟ أو كم هو عدد الفرنسيين الذين يعرفون من هو فلوبير ويعنيهم ماذا كتب سارتر؟ أو من الكاتب المصري الذي يستطيع إعادة طه حسين أو استعادة جمال حمدان؟ ولماذا لم يظهر في العراق سياب آخر بعد نحو القرن؟

يحدث ذلك لجميع الناس في جميع العصور في كل الأمم؛ نتأمل في أزمان العمالقة ونتمنى أن نسجل مشاعرنا في سجل التشريفات. ربما، في عصر آت، قام من يكتب الكلام نفسه عن علاء الأسواني ويوسف زيدان وجمال الغيطاني. وسوف يكتب رجل ما عن يسرا ما كتبته سابقا عن فاتن حمامة. وسوف يقارن أحد ما بدايات كوميديي اليوم مع عز نجيب الريحاني. ونحن، ما ذنبنا نحن؟ نحن كلما تقدمنا في العمر تقهقرنا في الذكرى. لا عتب ولا غضب. ولا حول ولا قوة إلا بالله.