تعالوا إلى استراتيجية سواء: «خفض التوتر الديني في العالم»

TT

منذ عشرين عاما - تقريبا - كان أول مقال كتبناه في جريدة «المسلمون» - التي كانت تصدر عن «المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق» - كان عنوان المقال وموضوعه هو «دعوة إلى خفض التوتر الديني في العالم».. ولقد سألني أحد أبرز طلابي الإعلاميين النابهين، وكان يعمل في الجريدة: لماذا تبدأ مقالاتك بهذا الموضوع غير المطروح وغير ذي الاهتمام على مستوى الرأي العام؟.. (ومن الواضح أن في السؤال نبرة اعتراض) قلت له: إني أحب أن أطرح ما ليس مطروحا وأن أبحث في الدروب غير المطروقة.. وحقيقة الأمر: أن ذلك المقال كان تعبيرا عن رؤية «كوكبية» - على مستوى الكوكب - تتألف من منظومة عناصر يكمل بعضها بعضا وهي:

أ) أن العالم يشهد «صحوات دينية» متعددة متنوعة. ولهذه الصحوات أسباب منها: انكسار موجة الإلحاد وتهافت مقولاته «كدعوة عالمية منظمة».. وظهور حقائق علمية ساطعة تدل على وجود الله وبديع صنعه (وهذا السبب مرتبط بما قبله بداهة).. والمشكلات والأمراض النفسية والاجتماعية الحادة التي اجتاحت الأفراد والمجتمعات واضطرتهم إلى البحث عن ملاذ مطمئن، وشفاء ناجع.. هذه الأسباب - ونظائرها - جعلت قطاعات بشرية كبرى في قارات الأرض كافة، ومن جميع الأعراق والديانات والأيدلوجيات تشعر بالحنين الفطري إلى خالقها والاتصال والأنس به - جل ثناؤه - ولقد مثُل هذا الحنين في صحوات دينية: كاثوليكية وأرثوذكسية، وبروتستانتية، ويهودية، وبوذية، وإسلامية الخ.

ب) العنصر الثاني من هذه الرؤية هي أن هذه الصحوات الدينية مرشحة لأن تُشحن بتوترات نفسية وفكرية عالية جدا بسبب استدعاء مواريث تاريخية ذات لظى في هذا الميدان، أو بسبب خلط الديني بالسياسي والأيدلوجي على نحو غبي أو خبيث، أو بسبب وجود مظالم عاتية تُحمَّل العقائد والأديان تبعتها وجنايتها.. وما لم يسارع عقلاء العالم وصلحاؤه وحكماؤه إلى خفض التوتر الديني - على مستوى الكوكب - فإن هذا التوتر سيتحول إلى هيجان صاخب يؤدي إلى صدامات مجنونة في الحياة اليومية: في الشوارع والأسواق والمساجد والكنائس والمواصلات.. وفي كل مكان تقريبا.. وفي هذا - بلا ريب - تقويض لـ«الأمن الدولي»، ولا سيما في عالم إنساني متداخل الشؤون والعلاقات والاتصالات: تنتشر كل ديانة من الديانات التي ذكرناها فيه كله: بمعنى أن كل ديانة من هذه الديانات لها «عمق بشري عالمي».. إن طاقات دينية هائلة متعددة الألسنة والأعراق والبيئات زائد صحوات دينية متصاعدة زائد شحن متضاد متبادل زائد توترات عالية تقود إلى صدام: ناقص عقلاء حكماء: يساوي خراب العالم، أو - على الأقل - تدني مستويات السلام والأمن فيه إلى حدود تنشئ الاضطراب والفوضى وتستدعيهما.

ج) العنصر الثالث من عناصر هذه الرؤية هو: أن الخيارات المتاحة هي: خيار إلغاء الطاقة الروحية ومصادرة الصحوات الدينية.. وهذا خيار لا بد أن يتأسس على مسلمة سابقة وهي: إرغام الناس جميعا على «الكفر الكامل» بكل دين ومعتقد.. وهذا خيار لا يقول به إلا الطوباويون البائسون الذين يتوهمون أن الكفر والإلحاد هو «الخلاص الوحيد» من الأزمات الدينية: الفردية والجماعية.. إن هذا البديل البائس ليس حلا ولا مخرجا. فالكفر ذاته أزمة طاحنة - نفسية وفكرية وعلمية واجتماعية - من حيث أنه «موقف سلبي» لا يستند إلى منطق فلسفي له اعتباره المنهجي، ولا إلى حجة علمية صحيحة، ولا يملك حلا - من أي نوع - يوفر السعادة والراحة للإنسان الفرد، ولا الإنسان من خلال المجموع.. الخيار الثاني هو: خيار «إكراه» الناس على اعتناق «ملة واحدة» فحسب، ولسنا ندري ماذا يقول الآخرون في هذه المسألة، ولكننا نعلم من ديننا الإسلامي - بيقين - أن الإكراه والتجبر والسيطرة الكهنوتية على القلوب والضمائر: جرائم ومقابح ممنوعة ومحرمة - قدرا وشرعا - في منهج الإسلام، ببرهان قرآني: «فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر».. «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»..: «وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد»..: «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين».. «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم».. ثم إن خيار إكراه الناس على «ملة واحدة» هو خيار غير عقلاني، وغير واقعي، وغير أخلاقي، وغير إنساني: بمعنى أنه يتناقض مع كرامة الإنسان ومع حريته في الاختيار.. الخيار الثالث لحل إشكال «التوتر والصدام الديني» هو خيار ترك التوتر الديني يأخذ راحته ومداه في التجذر والاتساع والتصاعد والغليان والتلظي والهيجان، وهو خيار لا يرتضيه ولا يتبناه إلا من يريد إحراق الكوكب كله بنيران الصدامات الدينية المتطاحنة.. أما الخيار الرابع في هذا المجال فهو خيار «التواطؤ العالمي» أو التوافق الدولي على «خفض معدلات التوتر الديني» في العالم.. ونقول «خفض»، لأن الإلغاء التام الفوري - جملة واحدة - أمر غير ممكن من الناحية العملية.. وحتى على افتراض أنه ممكن (أي الإلغاء التام)، فإن هذا الإمكان لا بد أن يبدأ بالمنطق العملي الضروري وهو: الخفض بالتدريج: كلما نجحت خطوة تلتها - وانبنت عليها - أخرى.. وهذا الخفض مهم كاستراتيجية دولية نشطة ودائمة: تجعل علاقات البشر - بعضهم ببعض - أصح وأعقل وأقوم وأرجى للثقة والتعاون، وأدعى للأمن والسلام.. ثم هو خفض ضروري لمكافحة وباء العنف والإرهاب.. وإنه لمن المتعذر مكافحة الإرهاب - على صعيد عالمي - في مناخ يغلي بالتوتر الديني. فهذا المناخ - في حقيقة الأمر - هو البحر الذي يجيد فيه الإرهاب السباحة، وهو الغاية التي تعطي حركته الشريرة مبررها «!!!»، وهو الطعم الذي يصطاد به صغار السن ويشدهم إلى أقبيته وشبكاته.

ومن صور «التواطؤ العالمي» الواجب النافع - ها هنا - : أن يتحد العقلاء في كل أمة لكي يلجموا - بلا هوادة - مثيري التوتر الديني في أمتهم، أو - كحد أدنى - يجعلوا أصواتهم خافتة خانسة: كأنها نقيق ضفادع، أبعده عن الآذان أزيز طائرة.

وكلمة خاصة لعلماء الأديان ورجالاتها، فإن الأولوية المطلوبة منهم: ألا يصدر عنهم ما يغذي التوتر الديني في العالم، يغذيه بكلمة أو تصريح تزيد فيه جرعة الانفعال والحماسة.