التوافقية العراقية إلى أين؟

TT

قدم السيد نوري المالكي منهاج وزارته الجديدة المتكون من 43 مادة أمام مجلس النواب العراقي في جلسته التاريخية بتاريخ 21 ديسمبر (كانون الأول) 2010، الذي لو تم تطبيقه فعلا خلال دورة حكومته القادمة، سيتحول العراق إلى دولة حديثة بكل معاني الكلمة. وربما يستغرب الملاحظ من أن نخبة سياسية لها دراية في تقديم برنامج متكامل وطموح لتحويل البلاد إلى دولة عصرية، كانت قد خرقت كل بنوده خلال السنوات الخمس الماضية. وتبقى هذه الوثيقة مهمة، حيث ستمكن الناخب العراقي من محاسبة أداء الحكومة بعد أربع سنوات من دورتها الحالية، أو على الأقل من المقارنة بين ما يكتب وما يطبق!

وشكا المالكي في كلمته أمام البرلمان من حكومة يشارك فيها جميع الفائزين، وطالب بحكومة أغلبية تتمكن من إقرار وتنفيذ القرارات بسرعة وبدقة أفضل. ولعل تطبيق البنود المقترحة في برنامج الحكومة خلال السنوات القادمة، سيمكن من تحقيق ديمقراطية الأغلبية. وهذا يعني القضاء على الطائفية السياسية والميليشيات المسلحة، واستتباب الأمن ومحاربة المفسدين، وضمان حرية التعبير للجميع، واستقلال القضاء، وتمكين المرأة، والمساواة أمام القانون وتوفير المستلزمات والخدمات الأساسية للمواطنين.

إن الديمقراطية التوافقية التي اعتمدت في جميع الانتخابات البرلمانية الثلاثة، التي مر بها العراق منذ عام 2005، من خلال مشاركة كل «المكونات» في المناصب الرئيسية في الدولة، كانت قد فرضت على المجتمع السياسي العراقي بسبب الانقسام الحاد بين القطاعات الأساسية في المجتمع العراقي بعد 2003. فالديمقراطية التوافقية هي الوسيلة الحديثة لرأب الصدع بين قطاعات المجتمع من خلال مشاركة ممثلي الكيانات المتعادية في الحكومة. وعلى هذا الأساس تم الأخذ بوجهة نظر ممثلي الطائفة السنية في كتابة الدستور العراقي رغم مقاطعتهم لانتخابات يناير (كانون الثاني) 2005.

وللديمقراطية التوافقية إيجابيات كما لها سلبيات، ويعتمد استخدامها على دراية كافية من قبل النخب الحاكمة بالتركيب الاجتماعي والإثني للمجتمع، وعلى فرض حالة من التوازن المعقول بين هذه المكونات. ويعتبر التوافق وسيلة لتقليل الانقسامات والتناقضات بين مكونات المجتمع وبناء الثقة المتبادلة بينهما، من خلال إشراك الجميع في تشكيل السلطة الحاكمة. وغالبا ما يتم ذلك من خلال ائتلاف واسع يضم كل «المكونات» الإثنية والطائفية والدينية وغيرها. وبمعنى آخر ألا تكون هناك أغلبية وأقلية، إذ حتى الأقلية ستكون ممثلة في السلطة، وعليه فإن المعارضة ستفقد معناها أو أن تأثيرها سيكون قليلا أو مربكا.

ورغم وجود مثل هذا الائتلاف الحكومي الواسع فإنه لم يمنع من نشوب الحرب الطائفية في فبراير (شباط) 2006. كما عانى الكرد من الحرب التي اندلعت في عام 1996 بين الحزبين الكرديين الديمقراطي والاتحاد الوطني اللذين كانا قد اقتسما السلطة في كردستان بنسبة 50% لكل منهما. وتنبه التجربة الكردية إلى أن سلبيات الديمقراطية التوافقية يمكن أن تشمل حتى المجتمعات المنسجمة اثنيا ولغويا. والتجربة الوحيدة لأحد أشكال الديمقراطية التوافقية في البلاد العربية هي الحالة اللبنانية التي توزعت فيها المناصب الحكومية حسب الدين والطائفة، والتي تمكنت فيها الأقلية من تعطيل حكم الأغلبية.

ومن مثالب التوافقية ظاهرة البطء والتأخير في اتخاذ القرارات الأساسية، بسبب الانقسام الحاد بين النخب السياسية وانعدام الثقة بينهما. ومن يستطلع مسيرة مجلس النواب العراقي خلال دورته الماضية، يجده كان شبه معطل، ولم يتمكن من تحقيق ثلث المهام المناطة به، حتى إنه لم يتمكن من سن التشريعات المطلوبة والواردة في الدستور. وإن أفضل مثال على انعدام الثقة بين النخب السياسية، هي تلك الحالة التي تم فيها التصويت على ثلاثة قوانين مرة واحدة، كل قانون من القوانين الثلاثة كان مدعوما من قبل ممثلي أحد المكونات الثلاثة.

يبرر البعض هذه الظاهرة بخاصية المجتمع العراقي، ومكوناته الإثنية والدينية واللغوية، وبروز الطائفة والعشيرة والعائلة إثر اضمحلال الدولة بعد احتلال العراق في 2003. إذ تكمن إحدى ميزات الدولة في دمج مختلف فئات المجتمع في كيان واحد، وفي توفير الأمن للمواطنين، وكلتا الوظيفتين كانتا قد تعطلت بعد احتلال العراق، فأصبحت التركيبات الاجتماعية ما قبل - الدولة الحديثة الملاذ الوحيد للمواطن العراقي.

وليست الديمقراطية التوافقية سيئة في نهاية المطاف، إذ إنها «ديمقراطية» على الرغم من أن البعض يعتبرها ديمقراطية ناقصة، لكن أهميتها تصبح في بعض الأحوال أهم بكثير من ديمقراطية الأغلبية، خصوصا في ظروف الانقسامات الاجتماعية الحادة بين مكونات المجتمع، بحيث تصبح علاجا لتجنب الحروب الأهلية، لكنها قد تكون أيضا مسببا لها. والتوافق حالة لا مناص منها أحيانا في مجتمع منقسم على نفسه، وحكم الأغلبية يتطلب دمج المكونات المختلفة في بوتقة واحدة؛ أي بكلام آخر الوصول إلى ذلك المواطن السياسي الذي ينتخب البرنامج وليس الطائفة.

والمشكلة التي تواجهها الحكومة الجديدة تتعلق بصعوبة اتخاذ القرارات، إذ إنها ستكون ممثلة لأحزاب لها وجهات نظر مختلفة ومتناقضة أحيانا تجاه كافة القضايا المطروحة التي يصعب التوفيق بينها. وولاء الوزير هو أولا للحزب الذي يمثله، وللجماعة التي جلبته للسلطة، وهذا سيجعل الوصول إلى إجماع مجلس الوزراء من القضايا الصعبة تماما. والطريقة المتبعة منذ انتخابات 2005 لحل هذا الإشكال هو أن يحيط رئيس الوزراء نفسه بمديرين تنفيذيين لهم السلطة الفعلية في تنفيذ قراراته تاركا الوزارات تهتم بأمور لا تتعلق باختصاصاتها.

وعلى الصعيد الشعبي ستتركز نقمة الجماهير، إذا ما سارت الحكومة الجديدة على درب الحكومة السابقة نفسه، ليس على أصحاب الحكم فحسب، بل على النظام السياسي أيضا، ذلك أن أي إخفاق من قبل الحكومة سيجير على النظام برمته، خصوصا أن المعارضة في التوافقات تكون شبه معدومة. وليس أمام الجماهير من منفذ للتخلص من الأحزاب القائمة، إلا بتكوين أحزاب جديدة تعبر عن تطلعاتها وآمالها، تماما كما حصل مع كتلة التغيير الكردية التي حصلت على تأييد شعبي عارم بسبب معارضتها لاحتكار السلطة في كردستان العراق.

وأخيرا، فإن القوى الديمقراطية والليبرالية هي الوحيدة التي غابت عن الساحة السياسية، رغم أنها المعنية بالنظام الديمقراطي، بسبب ضمور الطبقة الوسطى خلال فترة الحصار الاقتصادي على العراق، والعودة إلى التركيبات الاجتماعية ما قبل الدولة بعد احتلال العراق في 2003، لكن هذه القوى تخمد لتنهض مرة أخرى، وهي أقوى من السابق، ذلك لأن المستقبل لها، فهي الوحيدة المعنية ببناء دولة مدنية حديثة بكل معاني الكلمة.

* كاتب عراقي