أوليات

TT

يجب أن تسجل للرئيس عمر البشير «أوليات» كثيرة في تاريخ الأمة. فهو أول رئيس دولة يرعى انفصالا حبيا ويحتفل بخروج نصف البلاد. وأهل القرى عندنا كلما خرج ابن لهم من العائلة قالوا «الله يبارك البيت، اللي بيطلع منو بيت»! وها هو الجنوب يخرج والبشير باق، كما قال الجواهري في رثاء عبد الحميد كرامي «باق وأعمار الطغاة قصار».

يستقيل الرؤساء عادة لمخالفة مالية، أو لخسارة معركة، أو لفقدان قرية حدودية. وفي بلداننا يستعاد انتخابهم، ويدعى إلى الاحتفال المهيب جيمي كارتر ومجموعته الدولية. وليس في الذاكرة سابقة لما حدث: الرئيس السوداني، بالوشاح الأزرق والعصا، ذاهبا إلى جوبا يودعها، ويودع الإقليم الذي ولد مع السودان المستقل. ولكن السودان المستقل، مثل لبنان المستقل، ومثل العراق المستقل، لم يعرف كيف يعيش مستقلا. خرج الاستعمار، فبدأت الحروب. ومن العسف تحميل البشير وحده مسؤولية خروج الجنوب، فهذه مسألة بدأت مع وصول العسكريين إلى الحكم في الخرطوم، وقيام العصر الانقلابي، والالتهاء عن الاستقرار بالقمع، وعن التقدم بالنزاعات، وعن أحوال الناس بأحوال السلطة.

إن تسهيل انفصال الجنوب لم يصنع في الجنوب. لقد حدث في دارفور، حيث خرجت الخرطوم من مجازر الجنجويد وسلوكهم، بصورة محطمة أمام العالم. والضعف في دارفور تحول إلى استضعاف في الجنوب، حيث تخاض حرب عمرها نصف قرن، تدعمها من جهة عشرات القوى الخارجية، ومن جهة أخرى تعجز السلطة المركزية عن استبدال سلام وطني وعلاقة وطنية عادلة بها.

ويحدث في جوبا الآن ما حدث في أربيل من قبل: ازدهار اقتصادي واستثمارات خارجية وتعميق مطرد لمعالم الانفصال ومشاعر الابتعاد عن التوأم، الذي لم يرسل إلا العصا في محاولته تشديد الوحدة.

لم يمحُ نظام البشير الأخطاء السابقة ولم يصححها. ودفع السودان غاليا ثمن أخطاء الضباط الذين سبقوه، وسياسات جعفر النميري الصبيانية، في بلد يتطلب أوسع آفاق الرؤية. وقد يصحح لنا البعض بأن سورية كانت أول انفصال عربي وليس جنوب السودان. ولكن سورية لم تكن توأما سياميا، ولا ولدت في دولة واحدة مع مصر. ولذا تبقى الريادة للفريق البشير، مودعا في جوبا، نصف السودان، بأبغض الحلال وأزهى الأوشحة الزرقاء.