تسريبات «ويكيليكس» تمنح ذخيرة خطيرة للطاغية

TT

مع تسرب البرقيات الدبلوماسية التي نشرها موقع «ويكيليكس» من العناوين الصحافية إلى مناطق قاصية من العالم، أصبح بمقدورنا الآن الشروع في تفحص تداعياتها.

مثلا في زيمبابوي، التي تجعل منها هشاشتها حالة مثالية لاختبارها. لقد نالت هذه البلاد استقلالها، ثم نهبت، ثم دمرت تماما على يد رجل واحد: روبرت موغابي. وسرق الحزب الحاكم بقيادة موغابي الفوز في انتخابات عام 2008، إلا أن الانتخابات أفرزت حكومة ائتلافية مقلقلة، مع تولي زعيم المعارضة مورغان تسفانغيراي منصب رئيس الوزراء. وتحاول زيمبابوي حاليا كتابة دستور جديد والسيطرة على الأعمال الوحشية التي يرتكبها موغابي من وقت لآخر والاستعداد للانتخابات المقرر عقدها في وقت لاحق هذا العام.

وفي خضم هذا الوضع المشتعل يظهر في الصورة جوليان أسانج، وهو شخص لم يعرف عنه كونه خبيرا في الشؤون السياسية بالدول الأفريقية الجنوبية. وقد فضحت التسريبات التي نشرها مؤخرا اسم عضو بالحزب الحاكم تحدث مع مسؤول أميركي عن الانقسامات الداخلية بالحزب. وفي برقية سرية أخرى، عرض السفير الأميركي لدى زيمبابوي آنذاك كريستوفر ديل تقييما صريحا لشخصية تسفانغيراي ذكر خلاله أنه «رجل شجاع وملتزم»، لكنه في الوقت ذاته «شخصية معيبة» يتردد أحيانا بشأن اتخاذ القرارات و«مشكوك في صحة أحكامه بخصوص انتقاء الأفراد من حوله».

وتناولت برقية أخرى بالتفصيل اجتماعا سريا بين مسؤولين غربيين وتسفانغيراي، أعرب خلاله عن تأييده فرض عقوبات اقتصادية للضغط على موغابي، رغم أنه أشار إلى أنه سيضطر علانية لمعارضة العقوبات لأسباب سياسية.

القليل فقط من البرقيات المسربة أساء لموغابي وأسرته، حيث كشف عن تورطها في تجارة الألماس الدموي. إلا أن معظم البرقيات يسرت الطريق أمام الطاغية، حيث يشن الحزب الحاكم الآن حملة لمطاردة الخونة، بناء على المعلومات الواردة بالبرقيات. وعمدت وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة الحزب إلى المبالغة في الانتقادات الأميركية لتسفانغيراي، حتى في الوقت الذي تتهم فيه المعارضين بأنهم دمى في يد واشنطن.

وأعلن النائب العام المعين من قبل موغابي تشكيل لجنة لدراسة اتخاذ إجراءات قانونية، قد تتضمن توجيه اتهامات لتسفانغيراي. وصرح النائب العام بأن «ويكيليكس» يكشف على ما يبدو النقاب عن تواطؤ غادر بين مواطنين من زيمبابوي وقوى دولية عدائية، خاصة الولايات المتحدة.

وعلى من يبدون حماسهم لضرورة ضمان حرية المعلومات دائما وأبدا - مثل الأكسجين والفراشات - إمعان التفكير في الموقف داخل هراري، حيث تسبب الكشف عن برقيات سرية في تعزيز موقف حاكم مستبد.

إن السرية غالبا ما تكون شرطا مسبقا للمعارضة السياسية داخل أي مجتمع قمعي. ومن الممكن أن تشكل السرية حماية ضرورية للصدق. إن مستوى أهمية الاعترافات التي يدلي بها المرء في الكنيسة، مثلا، سيتضاءل قطعا لو أنها عرضت على «يوتيوب» من أعضاء الحزب الحاكم في زيمبابوي سيتحدث سرا الآن إلى المسؤولين الأميركيين حول الفترة الانتقالية المحتومة بعد موغابي.

وفي هذه الحالة، تظهر فوضوية القرصنة كمظهر استعراضي أكثر من كونها تعبيرا عن مبدأ ما. إن الحراك الذي مارسه أسانج ليس موجها لكشف أسرار الأمم المتحدة أو منظمات صحافية، وإنما يتحرك بصورة أساسية انطلاقا من كراهية الولايات المتحدة.

من وجهة نظر أسانج، تنفذ واشنطن «مؤامرة استبدادية» يجب التصدي لها عبر إعاقة تدفق المعلومات. وطبقا لهذه الرؤية، لا يهم إذا ما كانت السبل الأميركية عسكرية أو دبلوماسية، نظرا لأن أهدافها الكامنة إمبريالية واستعمارية. وانطلاقا من هذا الاعتقاد، يعتمد أسانج على نصير قوي واحد على الأقل هو موغابي الذي يشاركه وجهة النظر تلك ويجعل منها الرسالة الرئيسية للحملات الدعائية.

قطعا، هناك الكثير من المشكلات وراء أيديولوجية تحول الأوروبيين والطغاة الأفارقة المعادين للولايات المتحدة إلى مقاتلين متعاونين معا. ويكمن السبب الرئيسي وراء تداعي هذه الرؤية في اتباعها نظرة ضيقة وسطحية لمفهوم الاستعمار. في الواقع، يشكل موغابي وأعوانه نمطا من أنماط القوى الاستعمارية، والذي أطلق عليه ريتشارد جست في «نيو رببليك» اسم «الاستعمار الداخلي». إنهم يحتلون بلدا من أجل منفعتهم الخاصة، ويعاملون المعارضة بنفس الأسلوب الذي تعاملت به معهم النخب الاستعمارية القديمة من قبل. وتساءل جست: «هل يجد الضحايا عزاء في أن القمع الذي يعانونه ليس صادرا عن الغرب؟»

من بين التداعيات غير المقصودة للتسريبات الدبلوماسية الأخيرة تسليط الضوء على أدوار الدبلوماسيين الأميركيين مثل ديل. في البرقيات، تظهر صورته كمسؤول ذي مبادئ وبصيرة نافذة يتميز بالواقعية في تقييمه للأصدقاء والخصوم ويبدي التزاما عميقا بحرية أبناء زيمبابوي. إنه ليس بشخص لئيم يمارس لعبة استعمارية دنيئة. في إحدى البرقيات، كتب ديل: «موغابي ورجاله يمارسون الاستئساد بكل مكان. لو أتيحت لهم فرصة تهديد أي شخص، لن يتراجعوا عن ذلك. لكنهم ليسوا معتادين على مواجهة شخص يتصدى لهم ويقاومهم». وقد قال موغابي ذات مرة لديل: «اذهب للجحيم» وهي عبارة مشرفة لأي رجل أو امرأة حرة.

في بعض الأحيان، تتضمن السياسة الخارجية اختيارا أخلاقيا ثنائيا. وقد اختار أسانج جانب موغابي، والواضح أنه لم يندم قط على ذلك. وقد قدم ذخيرة لطاغية كما لو كان تاجر سلاح. ورغم كل ذلك، يتهم أميركا بأنها عدو الديمقراطية.

* خدمة «واشنطن بوست»