أزمة الكويت.. اليوم التالي

TT

معظم الدول تقرع طبولها اليوم على نغمة الاقتصاد، الكويت ما زالت تقرع طبولها عاليا على نغمة السياسة، وهي قادمة حثيثا للاحتفال بنصف قرن من زمن الاستقلال. تناسى الجميع في غمرة الصراع السياسي الحاد، القول الفصل لـ«أبو الدستور»، المرحوم عبد الله السالم. ففي الكلمات الأولى التي افتتح بها دور الانعقاد الأول، لأول مجلس منتخب، وبعد الديباجة أوصى بكلمات قلائل، قال رحمه الله: «أكرر وصيتي لكم كوالد لأبنائه، أن تحرصوا على وحدة الصف». «وحدة الصف» تلك واجهت مصاعب كبيرة في السنوات الأخيرة، فقد تعطلت الدولة في الأسابيع الأخيرة على خلفية تقديم استجواب لرئيس الوزراء الشيخ ناصر المحمد، الذي يعرف من تعامل معه مدى حرصه على وحدة الصف وإخلاصه للمصالح العامة. الأربعاء الماضي كان من المفروض أن يتنفس الجميع الصعداء، بعد أن كان نصف الساسة ضد نصفهم الآخر، ونصف الشارع ضد نصفه الآخر. وبعد أن مرت الدولة بهذا القطوع المهم والمفصلي، من المفروض أن يقبل الجميع بالنتيجة التي صدرت بعد التصويت، إلا أن المشكلة في تركيبة العقل السياسي العربي، والكويتي ليس استثناء. فهذا العقل بالمجمل الأكبر مركب حسب آلية محرك الطائرات، هذا المحرك يستطيع أن يدفع الطائرة إلى الأمام دائما، ولكنها تحتاج إلى مساعدة أرضية خارجية حتى تتحرك إلى الخلف ولو بضعة أقدام، هي لا تستطيع أن ترجع تلقائيا إلى الخلف، على عكس محرك السيارة الذي يستطيع أن يناور إلى الخلف وإلى الأمام ليتموضع بشكل أكبر.

قبل أسبوعين في هذا المكان، أشرت إلى القارئ بما اجتهدت فيه من رؤيتي لصلب الأزمة، وهي تتلخص في وجود وثيقة سياسية تعاقدية لا يريد أحد أن يراجعها بعد هذا الوقت الطويل، فيرفد قصورها، ويعزز إيجابياتها. رغم كل التجارب المرة ورغم تغير الأزمان وتطور الناس واختلاف حاجاتهم.

يوم الأربعاء الماضي صوت مع الحكومة عدد أكثر قليلا من نصف أعضاء مجلس الأمة، وصوت ضدها عدد أقل قليلا من النصف، وهي تلك الحسبة الديمقراطية المقبولة. كمثال تاريخي، فقد فاز استخدام اللغة الإنجليزية في غمرة أي لغة تتبناها الولايات المتحدة الأميركية، عند نشأة الدستور الأميركي بصوتين ضد اختيار اللغة الألمانية، كما تغلب الكونغرس بصوتين عند التصويت في عام 1990 على ترجيح فكرة طرد القوات العراقية من الكويت بالقوة. أبناء تلك الأيام يتذكرون كم حبسوا أنفسهم عندما كان العد يجري علنا، حتى لا يحصل العكس، ولكن الصوتين كانا هما المرجحان. تلك عملية ديمقراطية تحدث في أي مكان يقبل الاختلاف الحضاري لحل ما يواجه المجتمع من أزمات.

في العمق، الصف الذي صوت ضد الحكومة هو صف الاتفاق فيما بين أعضائه جاء بسبب قضية واحدة، هي الحريات كما أجمعوا على فهمها، ولكنهم في المقابل لا تجمعهم أجندة أخرى متوسطة أو طويلة الأجل، فلهم اجتهادات في الكثير من القضايا العالقة وهي تكاد تكون متناقضة.

في المقابل، فإن الجبهة التي صوتت مع الحكومة قليل فيها من اتخذ الموقف عن مبدأ، بعضهم لتوسيع أجندة شخصية أو فئوية أو مصلحية أو طائفية، أي إنه لا يوجد احتمال مبدئي – إلا في القليل – للوقوف في نفس الصف، لو اختلفت المنابر وتغيرت المواضيع. إن التصويت والتصويت المضاد هو تحالف المتضررين أو تحالف الآملين، وليس قائما بصفة مبدئية، وله أجندة ثابتة ومتوسطة المدى، تستطيع آليات الدولة أن تركن إليها في تنفيذ ما ترغب من خطط، كما يحدث في برلمانات العالم من أقلية وأغلبية، إنها أقلية وأغلبية موسمية.

الخيار الذي لا خيار غيره هو الإعلان الواضح الصريح الذي يعقبه عمل. إن المواطنة هي الخيار الوحيد الذي ينظم أي شعب متحضر، ويجري عليها ما يجري على كل مفاهيم المواطنة من حقوق وواجبات، وعلى رأسها العدالة الاجتماعية التي ترى بالعين، لا تقال بالفم فقط، بما تتضمن من الحرص على الحريات. ما حدث سوف يراقب عن كثب، كل كتلة قد تراقب الأخرى الآن، خاصة نظرة من صوت بالضد لمن صوت مع الموافقة، حيث إن بعض الموافقين قد ينقلبون إن لم يكن «الثمن» الذي آملوه شخصيا لتوسيع أجندتهم أو أجندة من يمثلونهم قد شابه التقصير، وبذلك بدلا من السير للأمام نجد أنفسنا – ونحن قادمون على عيد وطني كبير وضخم – لا نقف على نفس الأرض، بل نتراجع إلى الخلف.

الإعلام، أو على الأقل بعض منه، لعب دورا سلبيا فقد تداخلت مصالح وغابت المهنية وتدنت بعض التصريحات حتى التبست على المواطن القدرة على فهم ما يدور. الصراع السياسي ربما سبب عدم انضباط بعض الإعلام وربما عدم انضباط بعض الإعلام سبب الصداع السياسي، ولعبت هذه الدورة الجهنمية على تفاقم الأزمة في الشارع حتى فقد الحكيم صبره.

أين الموقف الآن؟ يقال كثيرا على السنة المجربين إن خير الديمقراطية ما قل واستمر، لا ما كثر وتقطع. وقد يكون في الكويت الكثير من الحرية ولكن القليل من الديمقراطية، أعني بشروطها المعروفة التي تقبل بالتراجع، إن كان ثمة مصلحة وطنية كبرى تدعي ذلك، كما تسعى للحلول الوسطى، إن كانت هناك مصلحة وطنية لفعل ذلك. الديمقراطية في صلبها لا تقبل تهميش الآخر وتحقيق انتصارات ساحقة ماحقة على الخصم السياسي، مثل هذا التفكير يأخذنا إلى حكاية داحس والغبراء، لا إلى ساحة متحضرة يتم إقناع الآخر فيها بالعقل والمنطق.

حتى اليوم – بعد تجربة طويلة في الممارسة – لم تتكون الكتلة الحرجة في الجسم السياسي الكويتي، وأعني بها تلك الكتلة – حتى لو كانت صغيرة – إلا أنها تقنع الجمهور عن حق بأن ما تسعى إليه هو المصالح المرسلة للناس لا المصالح الضيقة أو التحالفات المؤقتة.

لا يستطيع مراقب منسجم مع نفسه أن يتوقع ماذا ستحمله الأيام المقبلة، هل إلى سلام وطمأنينة أم إلى أزمة تشكل وقد تفاجئ الجميع. إلا أن الاختلالات سوف تبقى، إن لم نجد لها حلولا وتنفذ بشجاعة. قراءتي لما حدث أن الفائز حتى اللحظة هي الكويت، فقد اجتازت قطوعا سياسيا بالغ العمق. ولكن السؤال الكبير سوف يبقى حول جولات الهبوط والصعود التي تزداد تكرارا وقربا زمنيا، ربما نحتاج إلى عدسة مكبرة لقراءة الخط الرفيع بين الحرية الفعالة، والفوضى المدمرة.