قاعدة العراق ليست عراقية

TT

التحليلات والمواقف التي تلت التفجير الإرهابي الذي استهدف كنيسة القديسين في الإسكندرية ربطت بين الحادث والهجوم الإرهابي الذي شنته «قاعدة العراق» على كنيسة النجاة في بغداد، خصوصا أن كلا العملين يندرج في إطار ما صار واضحا أنه استهداف منظم ومؤدلج لمسيحيي الشرق، وأن الإرهابيين في الهجوم الأول هددوا باستهداف المجتمع القبطي في مصر. إننا هنا بصدد حالة يتحول فيها الإرهاب إلى تنظيم عابر للحدود وبأهداف ذات أبعاد إقليمية. فبافتراض أن هناك صلة حقيقية بين الهجومين، يعني ذلك أن الإرهاب قطع شوطا أبعد في تحويله لأهدافه من الصراع المحلي أو الاصطدام بنظام سياسي معين، إلى السعي لإحداث تغيير على نطاق إقليمي من نوع إفراغ الشرق الأوسط من مسيحييه وتكريس فكرة الصدام بين العالمين المسيحي والإسلامي. ذلك يثير الكثير من الأسئلة وحتى الشكوك حول طبيعة العقل المنظم الذي يقف وراء هذه الأعمال وهل الأمر مجرد تضامن بين شبكات إرهابية تتبنى فكرا لا يعترف بالكيانات الوطنية القائمة أم أنه يخضع لتنسيق إقليمي.

الأكيد أن التعامل مع هذه الهجمات لا يكون بالرد بأنها من صناعة متطرفين مضللين، بل إن هؤلاء المتطرفين وإن كانوا أداة مباشرة للهجمات فإنهم في الغالب كانوا نتاجا لصناعة أوسع. فهناك حكومات نفسها متورطة - بقدر ما – في صناعة الإرهاب، أولا بسبب عجزها عن التعامل مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي أسهمت في تغلغل هذا الفكر واكتسابه قبولا لدى قطاعات شعبية، وثانيا بمحاولتها السماح بهامش حرية للفكر الراديكالي أولا لتوظيفه في ضرب التيارات العقلانية المعارضة الأخرى، وثانيا لمخاطبة القوى الدولية وإظهار أن البديل الوحيد المتاح للأوضاع القائمة هو الفوضى والتطرف. كما أن الشبكات الإرهابية ومنذ تشكلها الأول خلال الصراع مع السوفيات في أفغانستان كانت إلى حد كبير مرتبطة بالنشاط الاستخباري الدولي والكثير من الخلايا الإرهابية تدار من أجهزة مخابرات ضمن الصراع بين القوى الدولية والإقليمية حيث تتحول تلك التنظيمات إلى إطار فضفاض لإدارة ذلك الصراع دون تسمية الأشياء بأسمائها.

ولذلك يبدو الحديث عن قاعدة العراق موحيا بأن هنالك تنظيما إرهابيا نشأ وترعرع عراقيا وببواعث عراقية بات يصدر إرهابه خارج العراق، والحقيقة أن هذا التنظيم تشكل أساسا من مقاتلين عرب تسللوا إلى العراق وكان زعيمه الأول أبو مصعب الزرقاوي أردنيا، وزعيمه الثاني مصريا، وأنه ضم العديد من المقاتلين من أفغانستان ومصر ودول المغرب العربي وبعض دول الخليج، بل إن أحد أهم أسباب عزلة التنظيم المتزايدة وانفضاض العديد من الجماعات الأخرى التي أطلقت على نفسها صفة الجماعات المقاومة عنه كان أجنبيته وسيطرة مقاتلين غير عراقيين عليه كما كشفت العديد من التقارير الغربية. السؤال هو كيف تسلل هؤلاء إلى العراق، ومن مولهم، ومن وفر الأغطية الاستخباراتية والإعلامية لنشاطاتهم، وإجابة هذا السؤال تكشف بوضوح أن «القاعدة» ليست مجرد تنظيم أصولي لمتطرفين مضللين، وأن قاعدة العراق ليست عراقية بل إنها زرعت زرعا في الجسم العراقي.

المسؤولية الأخرى هي مسؤولية الإعلام وغيره من المؤسسات المعنية بالقضايا الفكرية، فلقد أصبح تبرير العنف في العراق صناعة هائلة تتخذ شكلين، الأول هو خطاب المقاومة بحجة أن العراق بلد محتل ولا بد من وجود مقاومة مسلحة فيه لمحاربة المحتل وهو خطاب لم يأت فقط من بلدان معادية للغرب بل وأيضا من بلدان حليفة ولديها وجود عسكري غربي على أراضيها، مما يعني أن لغة المقاومة تلك كانت تخفي وراءها أهدافا أخرى وأنها استخدمت من أجل تبرير العنف بكلمات «جميلة». الشكل الثاني هو التعامل مع العنف الذي يحصل في العراق وكأنه صار طبيعيا بل وجزءا من واقع المنطقة وبالتالي لا داعي إلى البحث في أسبابه ودوافعه وأطرافه، فحتى الهجوم على مسيحيي العراق لم يحفز للأسف نفس رد الفعل المستنكر الذي حفزه الهجوم على مسيحيي مصر، وما زال بعض المثقفين المصريين مثلا يصرون بـ«وطنية عالية الصوت» على استنكار تدخل الفاتيكان وينسون أن كثيرا منهم ظل يبرر للعنف الذي يحصل في العراق وما زال مصرا على أنه عنف «أميركي» وحسب.

إذا كان الإرهاب يحمل اليوم أجندة إقليمية واحدة، فإن محاربته لا يمكن أن تكون إلا عبر أجندة إقليمية واحدة، فهو يتغذى أيضا على استخدام البعض له في أماكن معينة، للتحرك منها نحو أماكن أخرى. الإصرار على تبريره في مكان ما، سيجعله بالضرورة مبررا في مكان آخر.