الخطر يُظهر المعدن الأصيل للمصريين

TT

محمد علي باشا الضابط الألباني الذي خدم في الجيش التركي وأصبح واليا على مصر بطلب وضغط على الباب العالي من المشايخ وعلماء الدين المصريين، كان أول من استخدم مصطلح الدولة المصرية، وأول حاكم يتعامل مع المصريين بوصفهم جميعا سواسية كأسنان المشط، بعد أن فرض عليهم احترام الدولة وتعاليمها. أحب ذات يوم أن يكافئ أحد مستشاريه من الأرمن المسيحيين فأمر مسؤول الإصطبلات الأميرية أن يعطيه مهرة يستخدمها في تنقلاته. فأعطاه المسؤول مهرة عرجاء، فلما وصلت الحكاية إلى أسماع الباشا استدعى المسؤول وسأله: لماذا أعطيت الرجل مهرة عرجاء؟

فرد عليه: إنها مهرة مناسبة تماما لشخص كافر.

فرد عليه الباشا: هو ليس كافرا.. الكافر هو ذلك الذي يعصي أوامر الباشا.. الكافر هو الموظف الذي لا يقوم بتنفيذ أوامر الدولة.

ثم عاقبه بعدد معتبر من الجلدات لا شك أنها أقنعته بإعادة النظر في مفاهيمه عن المؤمنين والكفار.

وبعد أن فتح إبراهيم باشا سورية أصدر عدة فرمانات كانت ضرورية من أجل أن تشعر الناس جميعا بكل أطيافهم ومذاهبهم ودياناتهم أن لهم جميعا نفس الحقوق والواجبات. حدث بعدها أن طلب وفد من أعيان المسلمين مقابلته، فقابلهم واستمع إلى شكواهم، قالوا: عرفنا أنه من حق المسيحيين الآن أن يركبوا الخيول.. بينما كان المسموح لهم فقط هو ركوب الحمير.

فقال: نعم.. ماذا يسيئكم في ذلك؟

فقالوا: كان الوضع مختلفا تماما يا صاحب النعم.. عندما كانوا يركبون الحمير، ونمر بهم ونحن على ظهور الخيل، كنا أعلى منهم، مرتفعين عنهم، وهذا هو الوضع الطبيعي بالنسبة لنا ولهم.

ففكر قليلا وقال: لست أعرف ما الذي يجعل هذا الوضع طبيعيا بالنسبة لكم ولهم.. وعلى كل حال، إذا أردتم أن تكونوا مرتفعين عنهم، فهناك حل.. إذا ركبوا هم الخيل، فعليكم أنتم أن تركبوا الجمال وبذلك تكون هاماتكم مرتفعة عنهم طوال الوقت.

واقعة أخرى يتحدث عنها إدوارد لين في كتابه العبقري «المصريون المحدثون، عاداتهم وتقاليدهم» تنصرت فتاة مسلمة وتزوجت بترزي مسيحي، اكتشف أبوها ذلك بعد أن رأت بعض زميلاتها في الحمام الشعبي أنها قد دقت صليبا على ذراعها. وبعد أن أبلغ الأب السلطات بدأت عملية استتابتها غير أنها أصرت على موقفها على الرغم من المحاولات العديدة من رجال السلطة الدينية. وهنا استدعاها الباشا وحضر اللقاء بالطبع كل علماء الدين المسؤولين، ثم سألها: هل تعرفين ماذا سيحدث لك إذا أصررت على موقفك ولم تعودي إلى دينك؟

فأجابت: نعم يا مولاي.. أعرف.. سأموت.

فعاد يسألها: تعرفين أنك ستموتين ومع ذلك تصرين على موقفك، هل تفضلين الموت على الحياة؟

فقالت: لا يا مولاي.. أنا أحب الحياة.. غير أني سأموت عندما أحرم من الحياة مع زوجي.. وسأموت عندما أتمسك بمواصلة الحياة معه، الأمر بالنسبة لي سيان.

فنظر الباشا إلى الجمع الحاشد حوله وقال: هذه المرأة مجنونة.. لا أحد يرحب بالموت إلا إذا كان مجنونا.. اتركوها تعود إلى بيت أبيها، فليس على المجنون حرج.

طبعا رجال الدين كانوا على يقين من أنها كافرة، غير أنهم كانوا على يقين أيضا من أن طلبات الباشا أوامر، وأن من يعصي هذه الأوامر فعليه أن يدفع ثمن ذلك غاليا.

الواقعة الأخيرة لا تشكل موقفا متطرفا من أحد في مواجهة هذه المرأة، وربما كان الحل الذي فرضه الباشا ولا يعرفه إدوارد لين، هو أن يشهر الزوج الترزي إسلامه وأن يتزوج بها. غير أن القصة كما رواها لين فيها من عناصر التأليف ما يعجب القارئ الغربي.

حادث تفجير كنيسة القديسيْن في الإسكندرية، لم يشعرني بالحزن والتعاسة فقط، بل بالهزيمة، وأعتقد أن كثيرين مثلي من العاملين على إعلاء شأن العقل في مصر، وتقوية المجتمع المدني من أجل الحفاظ على حقوق الإنسان، أي إنسان، وكل إنسان، أعتقد أنهم شعروا بنفس الضياع الذي استولى على كياني كله. فعلى مدى أعوام طويلة تعاملت الدولة مع الأمر بوصفه ليس من جلائل الأمور، أي أنه لن يوصل في النهاية إلى تفجير الناس الخارجين في ليلة عيدهم من كنائسهم. لسنوات طويلة ونحن نراقب قطرات التدهور العقلي وهي تتساقط من شاشات الفضائيات وأوراق الصحف، وكلمات المدرسين والمدرسات في مدارس الحضانة، شاهدناها واستمعنا إلى صوتها الرتيب وهي تنزل على عقول الناس محدثة على مدى سنوات طويلة بحيرة كبيرة من التطرف والعداء للمسيحيين، غير أننا لم نسمع عن أحد قدم إلى محاكمة عاجلة لتحريضه الناس ضد المسيحية والمسيحيين. أعترف أن هناك أيضا محرضين بينهم، ومنهم محام يعيش في أميركا كان يمطرني يوميا بالبريد الإلكتروني المحمل بقنابل الكراهية وبارود التعصب، كما أعرف أيضا عن أب اتخذ من قبرص محطة له يقذف منها حممه على المصريين.

غير أن السلطة في مصر ليست مسؤولة عن قبرص وأميركا، السلطة في مصر مسؤولة عن حياة المصريين وأمنهم في وادي النيل، ليس من حق مخلوق أن يقوم بحركة تعيينات للكفار «على كيفه»، على السلطة في مصر أن تفكر في ما قاله محمد علي باشا لمسؤول الإصطبلات الغبي، وفي تعريفه - على مستوى الوطن والسياسة - للكافر، وهو أنه ذلك الذي يعصي أوامر الدولة.

إذا كنا ننعم الآن بالحياة في دولة آمنة فالفضل في ذلك لله سبحانه وتعالى أولا وإلى محمد علي باشا ثانيا لأنه أدرك بغريزته السياسية أن أي تهاون مع المتعصبين سيؤدي حتما إلى انهيار الدولة وضياعها.

حتى الآن لم تصل جهات التحقيق إلى حقائق صلبة يمكن أن تؤدي لمعرفة الفاعل، غير أني لن أشعر بالدهشة إذا اكتشفنا أن العملية كلها «إسكندراني». من المعروف أن أقرب الأجسام إلى المتفجرات هو الأكثر دمارا، وهو ما ينطبق على شخص واحد استطاع الأمن المصري تحديد ملامحه بمساعدة عدد من الجراحين، وبذلك تمكنوا من نشر صورته على أمل أن يتعرف عليها أي أحد. وهنا أتكلم عن الحظ الأمني، وإذا كنت تتصور أن السياسة والأمن لا يعرفان الحظ، فعليك أن تقرأ مرة أخرى ابن خلدون ومكيافيللي، لأنهما تكلما كثيرا عن حسن الطالع.. المصريون جميعا ينتظرون الآن حسن الطالع.

المفاجأة الحقيقة كانت هي موقف المصريين عقب ذلك الحادث البشع، لقد نجح الحادث في الكشف عن تحضرهم القديم، وبغير تعليمات من أحد استطاعوا أن يقفزوا إلى الأمام قفزة واسعة تخطَوا فيها شيوخهم وقساوستهم ومسؤوليهم ليقولوا بقوة وصدق إنهم جميعا مصريون أولا وإنهم سيدافعون عن مصريتهم.