حيث يصبح العلم جهلا

TT

لقد مزق الفلسطينيون فكرة عزيزة علينا. فنحن نعتقد أن كل ما تحتاجه الشعوب العربية للنهوض هو نشر التعليم. وبالأمس قلت إن مصيبة العراق مرجعها إعطاء حق الانتخاب لأكثرية من الأميين والجهلاء، ودعوت إلى حصر هذا الحق في المتعلمين. وردنا عدد من التعليقات يؤيد أكثرها هذه الفكرة. يجب ألا يترك مصير الأمم بيد الجهلاء. كلمة تبدو واضحة في حكمتها. ولكن، واأسفاه. جاء إخواننا الفلسطينيون ونسفوا هذه الفكرة.

أعتقد أن الشعب الفلسطيني أكثر شعب متعلم في البلاد العربية. لا أتصور وجود فلسطيني لا يعرف القراءة والكتابة. والمعتقد أيضا أن الفلسطينيين يتمتعون بأعلى نسبة من الخريجين وحملة الشهادات العالية. حيثما تذهب ترهم يحتلون أعلى المراكز المهنية والجامعية. أعتقد أيضا أن عدد الكتب والموسوعات التي كتبت عن فلسطين يفوق ما كتب عن أي بلد عربي آخر، وكل ذلك رغم صغرها وشحة مواردها. هل انتفع الفلسطينيون من علمهم وتعلمهم هذا؟ يؤسفني أن أقول ويحز قلبي أن أعترف بأن علمهم لم ينفعهم بشيء. فقد أثبتوا سياسيا بأنهم من أكثر شعوب العالم سذاجة، وربما لا يضاهيهم في سذاجاتهم غير العراقيين. ويأتي في صدر هذه السذاجات تشبثهم بشعار «بالسلاح فقط نحرر فلسطين».

ينحصر تاريخ فلسطين الحديث في سلسلة من الأخطاء والحماقات والانتهازيات والمواقف السلبية صبت في هذا المأزق الذي ألقوا به أنفسهم اليوم. كثيرا ما أجد نفسي حائرا عندما أتبصر بالسذاجات التي أظهروها في مواقفهم. أقول كل ذلك دون أن أغفل عنصر الحظ السيئ الذي صاحبهم وأحاطهم بظروف عالمية سلبية وأعطاهم عدوا بارعا يحظى بتأييد كل القوى العالمية الجبارة والكوادر المتمكنة وأعطاهم في عين الوقت قيادات جاء معظمها بالصدفة ودون أي خبرة أو معرفة بشؤون السياسة.

أصبحت غزة خلاصة لهذا التاريخ المأساوي. وفي حمأة عذابها ظهرت مؤخرا مجموعة غاضبة من شبابها عمدت للتعبير عن شجون شعبهم بأصوات ثائرة متمردة حانقة على كل القيادات الفلسطينية. استعملت الإنترنت وسيلة لنقل رسالتها للعالم. جاءت بصيغة «بيان شباب غزة للتغيير».

التقاهم مراسل «الغارديان» ونشر تقريرا مسهبا عن مشاعرهم وتطلعاتهم. ما هي مشاعرهم؟ كلها «قرف» من القيادات الفلسطينية وشتائم و«فشار» بذيء على حماس وفتح وإسرائيل والأمم المتحدة ووكالة اللاجئين.. وعلينا جميعا وإن لم يقولوا ذلك.

هذه مشاعرهم ولا أحد يلومهم عليها. ولكن ما هي تطلعاتهم؟ هنا المطب الذي لمحت إليه. يختتمون بيانهم بهذه الكلمات: «نريد ثلاثة أشياء: نريد أن نكون أحرارا. نريد أن نحيا حياة اعتيادية. نريد السلام».

كلها أهداف طبيعية ومألوفة نسعى إليها جميعا. لا جديد في الأمر. ولكن المطب هو كيف يا شباب غزة تريدون وتسعون لتحقيقها؟ ما وسائلكم العملية والواقعية التي تمكنكم من نيل ما تريدون أو تقربكم إليه؟ لا شيء على هذا الصعيد. بيد أن مراسل «الغارديان» يقول إنهم منكبون الآن في دراسة استراتيجية عملية لنيل مطالبهم. أرجو أن تضم دراستهم أفكار الجهاد المدني ونبذ العنف.