ظريف ظرفاء دمشق

TT

فقدت دمشق ظريفها الذي حاول كثيرون، عبثا، تقليده. كان رجا الشوربجي صحافيا، لكن بلا صحيفة. وكان سياسيا بارعا، ولم يكن له في السياسة أي شأن، إلا من معركة انتخابية على أحد مقاعد مدينته، دمشق. وكان فنانا، وما كان له من الفن سوى صداقته التاريخية مع الرحابنة، ورفقته لفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ. والمرة الوحيدة التي استمعت فيها إلى محمد عبد المطلب، كانت بدعوة من صديقه. الشوربجي.

بعد خروجه من سجون عبد الحميد السراج، قال ضاحكا: «الآن تأكدت أن قدرة البني آدم على الاحتمال، أكبر من طاقة الحمير». عايش الشوربجي 20 انقلابا في سورية، وتعايش مع كل العهود. ومرة قال لي صديقه ورفيقه منصور الرحباني: «ثمة مخلوق واحد تخاف منه المخابرات في العالم العربي: رجا الشوربجي»!

كان لاذعا مثل قفير نحل ووكر دبابير، لذلك أحب السياسيون متعة الجلسة معه، وارتعدوا من إمكانية الوقوع تحت لذعة غضبه. وقد كان غضبه سريعا، وصلحه سريعا، ومودته مشروطة. كان يسيطر بذكائه ولماعته وسرعة بديهته على أي مكان يجلس فيه. هو يحدث، وهو يلقي النكات، وهو يهزهز الخصور والعظام. إذا حكى عرف السامعون أنهم سيضحكون، وعرف الغائبون أنهم اغتيابا سوف يبكون. لذلك كانت السلامة تقتضي الحضور حيثما وحينما يحضر. وسوء الظن به كان من حسن الفطن.. لم يكن من الحكمة أن يؤتمن الشلال من اللذعات واللمحات.

عاش حياة دمشق السياسية والاجتماعية منذ أيام ظريفها الأول، جميل البارودي، الذي تتلمذ على يديه. ومعها عاش حياة بيروت، توأما ثالثا لعاصي ومنصور الرحباني. وما أسعد من حل عليه رضا الشوربجي، وما أتعس من نال غضبه: «إيه خيو، هادا جاسوس ابن جاسوس».

لعله كان من أدق ومن أعرف شهود المرحلة التي عاشها، ما بين دمشق وبيروت، منذ الأربعينات إلى لحظة وفاته عن 86 عاما، في اليوم الأول من هذا العام. بعد جميل البارودي كان رفيقا لتقي الدين الصلح. وكان منزله مليئا بصوره مع كبار العرب ومشاهيرهم. وذات مساء رأيته في مطعم فرنسي قديم مع أصدقاء له، وبعد قليل بدأ أصدقاؤه يضحكون، ثم نحن على الطاولة الأخرى، ثم الفرنسيون، ثم ممثلة أميركية شهيرة مع زوجها، ثم النادلون، ثم الصحون، ثم الجدران. كان رمز الظرف الذكي ونقيض التهريج. رحمه الله.