ماذا جرى لصحافة مصر؟

TT

كان المشهد مربكا يوم احتفال المصريين بعيد الميلاد، الذي نقله التلفزيون المصري بصورة مبالغ فيها تضامنا مع أقباط مصر في الحادث الأليم الذي ألم بكنيسة القديسين في الإسكندرية. هذه المرة، أكتب من القاهرة، وليس من أقصى الصعيد كما كان الحال مع مقال الخميس الماضي «مصر: كارثة ثقافية!». شاهدت، مثل المصريين كلهم، التلفاز؛ حيث قدم كل نجوم الـ«توك شو» المصري فقرات مختلفة من الحفل الذي استمر من السابعة حتى الحادية عشرة مساء من البث المباشر لتلفزيون الدولة، ولو أن إنسانا كان في مصر يوم أن اشتعلت نار الفتنة يوم مباراة مصر والجزائر، التي جرت في السودان العام الماضي، ثم تركنا إلى بلاد بعيدة وعاد ليلة القداس لرأى الوجوه ذاتها التي كانت تحرض على الفتنة على الشاشات يوم مباراة مصر والجزائر هي الوجوه ذاتها التي ظهرت على الشاشات لتطيب خواطر الأقباط بعد كارثة كنيسة القديسين في الإسكندرية.

لا تغيير، الوجوه ذاتها ولكن بقناع مختلف هذه المرة. وجوه لكل زمان، ولكل حادثة، ولكل حديث. وعلى الرغم من ذلك فقد خذل المشهد بتعقيداته المشاعرية قدرة الممثلين على أداء الدور، فهناك حزن على ما حدث في الإسكندرية، وهناك قداس احتفال بمولد السيد المسيح، ولكن الممثلين الذين اعتادوا على أداء أدوار في الغالب ما تكون (يا أبيض، يا أسود) لم يستطيعوا تأدية دورهم في وقت يتطلب ضبطا لحالة مشاعر مختلطة، لم يكن لدى أي منهم ما يسمى في بلاد الغرب «الإموشنال رينغ» أو المساحات المشاعرية؛ إذ كانت الوجوه غير قادرة على التعبير عن مشاعر مركبة، كانت مشاعر أبيض وأسود، المذيعة تلبس السواد من ناحية، ووجهها وتسريحتها وضحكتها احتفالية، وكأنها في يوم عيد. الصورة مربكة، جزء من اللباس المرئي حزين، وماكياج الوجوه وابتسامتها كانت تعبر عن فرح. ولا تدري هل المذيعة حزينة على ما حدث، أم أنها فرحة لأنها على الهواء ولساعات طوال يشاهدها المصريون كلهم.

في المجتمعات الناضجة إعلاميا يستطيع المذيع أو المذيعة أن يتقمص حالة الموقف المشاعرية ولا يحيد عنها طوال اللقاء، أما عندنا، فمرة ابتسامة، ومرة قهقهة، ولباس أسود، ولو كنت لا تتحدث العربية، وشاهدت البث، لظننت أنهم إما في حفلة طرب، وإما أنهم في ليلة لباس تنكري.

في اللقاءات التلفزيونية ذاتها كان هناك لقاء جمع بين وزير المالية المصري يوسف بطرس غالي والممثل المشهور عادل إمام، وبدلا من أن تسأل المذيعة الوزير العائد لتوه من مجلس الوزراء؛ حيث استمع إلى عرض لوزير الداخلية عما حدث في الإسكندرية، أو تستفسر منه عن سياسات الحكومة وما جرى داخل الاجتماع، وجدنا المذيعة مشدوهة بعادل إمام ومشاعره ومشاعر أسرته تجاه الأقباط، ثم لوقت قليل حدثت يوسف بطرس غالي على أنه وزير قبطي، وسألته عن قبطيته، وعن مشاعره، ولم تسأله سؤالا واحدا يخص سياسة الدولة. تلك هي الصحافة التلفزيونية في مصر المحروسة، ليست بحثا عن معلومة، وإنما هي مجرد تلميع لأشخاص بعينهم، تلميع يأتي فيه المذيع بالضيوف من أجل أن يعلق آراءه عليهم لا من أجل أن يسمعهم. أتحفنا مجموعة مقدمي البرامج بنظرياتهم ورؤاهم عن الوحدة الوطنية، ولم نسمع للضيوف، أو ربما في أحسن الحالات تقاسم المذيع الوقت مع الضيف، (فيفتي فيفتي، النص بالنص).

مذيعة أخرى قالت لنا إنها كانت هناك ورأت الدم على حوائط الكنيسة، وكل شوية: «أنا كنت هناك وشفت»، وكأن وظيفة الصحافي التلفزيوني هي أن يبقى في الاستوديو، وأن سعادتها تكرمت علينا، بأنها «راحت وشافت». الموقف نفسه كرره الأستاذ مفيد فوزي، مقدم برنامج «حديث المدينة»، في لقاء تلفزيوني؛ حيث قال للمذيع: «أنا رحت نجع حمادي يوم أحداث العام الماضي»، وكأنه قدم لنا خدمة جليلة بأنه ذهب إلى نجع حمادي، أو أن ذهاب مقدم برنامج إلى نجع حمادي هو أمر لا بد أن نكون ممتنين له لأنه ذهب بكاميراته إلى أدغال أفريقيا، وإلى أماكن خطر لم يكن لآخرين غيره أن يذهبوا لها. طبعا لا مجال هنا للحديث عن ظاهرة مقدم برنامج يستضيف مقدم برنامج آخر للتعليق على الأحداث، هي ظاهرة مصرية عجيبة، لا تجدها إلا في بلاد العربان.

وإن كان هذا هو حال الصحافة التلفزيونية المرئية، فالصحافة المكتوبة لم تكن أحسن حالا. فمثلا، في عدد الأربعاء 5 يناير (كانون الثاني) 2011 نشرت «الشرق الأوسط» عنوانا مؤدبا عن تضارب أقوال الصحافة المصرية حول ما حدث، التي اعتمدت في معظمها على التخمينات، لا التقارير الصحافية الجادة؛ حيث عنونت «الشرق الأوسط» القصة بشكل مؤدب قائلة: «الصحف المصرية تتسابق للوصول إلى الجناة في حادث كنيسة الإسكندرية»، نشرت «الشرق الأوسط» ثلاثة تقارير، أحدها لـ«المصري اليوم» التي نقلت عن مصدر أمني أن «هناك احتمالين للحادث، الأول: أن المتهم ربما كان واقفا إلى جوار سيارة خضراء اللون كانت تقف أمام الكنيسة وفجر نفسه، والثاني: أنه دخل وسط الخارجين من الكنيسة وفجر نفسه بالقرب من السيارة، خاصة أن تقرير المعمل الجنائي استبعد أن تكون السيارة مفخخة». أما صحيفة «الشروق» الخاصة فقالت في صدر صفحتها الأولى: «إن شهادات رجال الشرطة تؤكد استخدام سيارة مفخخة في التفجير، ناقلة أقوال مندوب الشرطة المعين كحراسة على الكنيسة». كما نشرت الصحيفة أن هناك وفودا إسرائيلية مكثت يوما واحدا «بأحد الفنادق الشهيرة بشرق الإسكندرية من أجل الصلاة بالمعبد اليهودي في صباح اليوم الثاني قبل الذهاب إلى محافظة البحيرة». أما صحيفة «الأهرام» فتبنت ما سمته «السيناريو النهائي» لارتكاب جريمة الإسكندرية، وذكرت في هذا السياق أن «فريق البحث الجنائي كشف عن احتمال أن الإرهابي توجه مترجلا إلى مكان الحادث، واستخدم حقيبة يد تشبه حقائب المدارس والرحلات ويرجح ارتداؤه حزاما ناسفا»‏.‏ ونقلت عن مصدر أمني مسؤول أن «الجاني ما هو إلا أداة لتنفيذ الجريمة التي تقف وراءها إحدى الخلايا الإرهابية‏‏ التي أرادت تفجير الفتنة الطائفية في البلاد‏». هذا التضارب يمكن أن يدرس في كليات الإعلام كمثال لصحافة العالم الثالث التي تعتمد التخمين، وتضرب بمهنة الصحافة عرض الحائط.

كان من الممكن لأي من الصحف المصرية أو التلفزيونات أن تقدم لنا، مثلا، تقريرا عن عدد الأقباط في مدينة الإسكندرية، أو عدد الكنائس، كنوع من خلفية الحقائق المصاحبة للقصة الصحافية، كما فعل الأستاذ عادل درويش في (حصاد «الشرق الأوسط»). كان من الممكن أيضا أن تقدم الصحافة تقريرا عن محلات المسامير والرولمان بلي الذي استخدم في بناء القنبلة، إن لم يكن هناك في الإسكندرية محلات من هذا النوع، يمكننا أن نقول: إن القنبلة صُنعت خارج المدينة، مثلا. كان من الممكن، وكان من الممكن.. ألف قصة وقصة صحافية تعتمد على الحقائق لا على التخمينات لتضيء شمعة حول الحدث وتساعدنا على فهم ما جرى، لكن وللأسف كانت التقارير كلها مجرد تخمينات وقصص أقرب إلى القصص الخيالية منها إلى الصحافة الاستقصائية الجادة. كانت في مصر صحافة أيام مصطفى أمين وعلي أمين وموسى صبري حتى جيل إبراهيم سعدة ومكرم محمد أحمد، صحافة تعتمد الحقيقة، لا الرأي، أساسا لعمل الصحافيين، ولكن حادثة الإسكندرية كشفت عن عورات كثيرة في الصحافة المصرية، فهمُّ الصحافة المصرية اليوم لم يعد الخبر أو المعلومة، بقدر ما هو تلميع للصحافي والمذيع التلفزيوني؛ لأنهما هما بطلا القصة، ولتذهب المعلومات ومعها مهنة الصحافة إلى الجحيم.