بلد المليون متظاهر!

TT

عاد العنف مجددا إلى شوارع الجزائر وانطلق مئات الشباب في مظاهرات عشوائية وغاضبة يرمون الشرطة بالحجارة ويعتدون على المحال، ورافعين شعارات التنديد بغلاء الأسعار وتردي الأحوال المعيشية وانعدام فرص التوظيف والعيش الكريم، متهمين الحكومة بسوء الإدارة والمحسوبية والفساد والإهمال، يقود هذا الحراك فئة الشباب الذي تعصف به آفة البطالة بشكل خطير.

الجزائريون لا يزالون يتذكرون بألم وحسرة وخوف وقلق فترة الإرهاب الطاحنة التي مرت بها بلادهم وتسببت في وفاة الآلاف منهم بشكل غير مسبوق، فالحركات الإرهابية استغلت الوضع الاقتصادي السلبي في البلاد وحاجة الشباب للمال والعوز الاقتصادي وتمكنت من تجنيدهم بأعداد كبيرة، حتى إن علماء الاجتماع كانوا يطلقون على العاطلين عن العمل لفظ «الجداريين»، نظرا لوقوفهم مستندين الى الجدار لساعات طويلة. البطالة في الجزائر اليوم وصلت إلى معدلات خطيرة تتجاوز العشرين في المائة في بعض المناطق، وهذا غير منطقي في بلد نفطي وزراعي كبير ومترامي الأطراف، ولا يزال الجزائري يبحث عن «ملاذه» في فرص الهجرة إلى فرنسا بشكل رئيسي وأوروبا بشكل عام.

الحكومة الجزائرية تتخبط بين خياراتها الاقتصادية، فتارة تفتح الباب للاستثمار والخصخصة، وتارة تغلقها وتعود للمركزية والاشتراكية، وتارة توجه رسائل سياسية عبر القناة الاقتصادية، فتميل تجاه أوروبا وفرنسا ثم تكيدهم بالانفتاح النفطي على الولايات المتحدة الأميركية، وهذه السياسة ولدت إحساسا وشعورا قويا لدى العامة بعدم الاستقرار والثبات على رؤية سياسية واضحة بشأن المسألة الاقتصادية، مما أسفر عن معدلات نمو بطيئة (لا يعوضها إلا المداخيل الجيدة، نتاج معدلات أسعار النفط القياسية) واستمرار مخيف لمعدلات البطالة المرتفعة.

هناك غضب جزائري متراكم منذ استقلالها عن فرنسا وتوتر العلاقات الداخلية البينية بين أقطاب ثورة الاستقلال وتولد مراكز قوى داخل المؤسسة العسكرية تؤثر بشكل واضح على القرارات السياسية، وعلى الرغم من وجود ملامح الحراك الديمقراطي في الجزائر (هي من الدول العربية القليلة التي بها رؤساء دول سابقين خرجوا من الحكم دون انقلاب وما زالوا على قيد الحياة!) فإن تجربة الانتخابات التي حصلت في القرن الماضي وأدت إلى خروج جبهة الإنقاذ من الحكم لا تزال مؤثرة على ذهنية السياسي الجزائري، وكذلك هناك قلق من استمرار تردي العلاقات الجزائرية مع بعض الأشقاء العرب، ولعل المثال المغربي في شأن الصحراء الغربية يؤكد هذا الشيء ويوضح أن هناك الكثير مما هو مطلوب حتى تعود العلاقات طبيعية، وكذلك العلاقة مع مصر التي تدهورت بسبب مباراة في كرة القدم ودفع ثمنها الشعبان وتأثرت المصالح الاقتصادية بينهما حتى الآن.

الجزائر انفتحت لفترة على العالم العربي، وقرأ العرب لكتابها مثل محمد أركون وأحلام مستغانمي وانطربوا للشاب خالد ورشيد طه، ولكن الجزائر مطالبة بانفتاح أكبر على العرب وإحسان ظن أفضل. المظاهرات الجزائرية مرشحة لأن تتكرر وتزيد، لأن العلل الأساسية لم تواجه، وبالتالي لم تحل وكل الخوف أن تعود موجات الغضب مجددا، خصوصا أن الحركات السياسية الإسلامية بدأت في التدخل لاستغلال هذا الحراك الشبابي المتحمس.

أسعار الزيت والسكر والأرز ارتفعت، هذا هو العوز الذي انطلقت به المظاهرات في الجزائر، ولكن الوضع أدق وأخطر من ذلك.

[email protected]