الشعر أفيون العرب

TT

من كلمات كارل ماركس التي شاعت بين المثقفين قوله «الدين أفيون الشعوب». غير أنني رحت أستعمل كلمة أخرى في هذا الصدد، فأقول «الشعر أفيون العرب». لعل بين قرائي الكرام من يتذكر حملتي على هوسنا بالشعر عندما قلت إن هذا الهوس من مظاهر وأعراض تخلفنا، بل ومن أسبابه.. فالشعوب الناضجة والمتطورة تنصرف للعلوم والفلسفة والطب والتكنولوجيا.

تذكرت كل هذا الطرح وأنا اقرأ كتاب الدكتورة نورة صالح الشملان، أستاذة الأدب القديم في جامعة الملك سعود «على شاطئ التراث»، من منشورات دار «الخلود». ما قرأت منه غير صفحات قليلة حتى راعتني هذه الملاحظة. فالدكتورة الشملان رسمت لنا صورة عن مجالس الخلفاء ذكرتني بكل ما قرأناه عن جلساتهم ومجالسهم. تنتظر من رئيس دولة، إمبراطورية ضاربة الأنحاء تمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج، أن ينحصر تفكيره في شؤون هذه الإمبراطورية وأحوال رعيتها وما يكتنفها من أخطار. لا شيء من ذلك. ولا أريد أن أزج إلى القارئ بحكايات الجواري ومجالس الطرب والمجون. لكننا ونحن نقف على شاطئ التراث نقرأ عن المناقشة الحامية الوطيس التي غرق فيها الخليفة عبد الملك بن مروان بسبب اسم فرضته القافية على جرير:

«وتقول بوزع قد دببت على العصا

هلا هزئت بغيرنا يا بوزع؟»..

وقد امتعض أمير المؤمنين واحتد مزاجه لسوء اختيار الشاعر لهذه الكلمة. وفي مناسبة أخرى، اعترض الخليفة على بيت آخر قاله الشاعر:

«أهيم بدعد ما حييت وإن أمت

فواحزنا من ذا يهيم بها بعدي؟»..

حيث وجده الخليفة بيتا كئيبا لا يفرفش نفس أمير المؤمنين. فدعا الجالسين من الشعراء لإصلاحه فلم يوفقوا. فدعوا الخليفة نفسه لتولي المسؤولية، ففعل فقال:

«تحبكم نفسي - حياتي فإن أمت

فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي»..

وبالطبع أجمع الحاضرون على أن ما قاله الخليفة كان هو الأروع والأصلح! ولا عجب في أن يولي الخليفة كل هذا الاهتمام للموضوع، فقد كانت القصيدة مدحا له. وما أحلى المدح حتى عندما تكون خليفة المسلمين.

قرأت كل ذلك فتساءلت مع نفسي: كيف إذن وصلت جيوش المسلمين إلى تخوم الهند والسند والقائد الأعلى مشغول ببيت شعر؟ لا شك أن في الأمر معجزة أخرى من معجزات الخالق. فاستمعوا واتعظوا كلكم أيها الملحدون والمشككون.

عبثا حاولت أن أتذكر أي شيء سياسي أو اقتصادي أو عسكري أو إداري جرت مناقشته في مجالس الخلفاء، باستثناء الخلفاء الراشدين. سألت زميلي وحجتي في الموضوع إياد أبو شقرا. قال: «لا تضيع وقتك». بيد أنني تذكرت شيئا واحدا فيه منحى سياسي واقتصادي قاله هارون الرشيد لسحابة رآها تمر في سماء بغداد في موسم جدب، فقال لها: «اذهبي وأمطري أنى شئت فإن خراجك سيعود لي». لا أدري بماذا أجابته السحابة. ربما قالت له سأنتظر يا أمير المؤمنين حتى تردني الأوامر من وزيرك الفارسي. فبانشغال الخليفة بالشعر والطرب تولى شؤون الملك الأعاجم الذين لم يعرفوا الشعر العربي ولم يشغلوا بالهم بقوافيه وأوزانه، ونحوه وصرفه. وأفلتت الدولة من أيدي العرب.