نحو تخفيف هيمنة الكفيل في سوق العمل الخليجي

TT

الحديث عن العمالة الأجنبية في دول الخليج العربي، وعن سوق العمل بتشوهاته وقنابله الموقوتة يطول، وهو ذو شجون، وسيبقى معنا إلى أن تُتخذ الخطوات القانونية والسياسية اللازمة لتصحيحه وتطويره.

لقد شهد سوق العمل الخليجي، ومنذ طفرة النفط الأولى في منتصف سبعينات القرن الماضي، تغييرات كبيرة، أدت إلى نتائج خطيرة، لعل من أهمها ثلاثا، أولاها نشوء نظام الكفيل، الذي لا أساس له في قوانين العمل أو الهجرة، والذي بموجبه يكفل المواطن عددا من العمالة الأجنبية، آسيوية أم عربية أم أوروبية، ويحتجز جوازات سفرها، ويسيرها كما تشاء مصالحه التجارية. أما النتيجة الثانية فهي تفشي البطالة في دول المنطقة وازديادها بما لها من آثار اجتماعية ومعيشية وأمنية لا سيما في ظل غياب شبكة أمان اجتماعي للعاطلين - باستثناء البحرين التي لديها نظام التأمين ضد التعطل. وثالثة الأثافي وربما أخطرها، الازدياد الرهيب في أعداد العمالة الوافدة (تجاوزت 15 مليون وافد)، واستقرار الكثير منهم في ظاهرة فريدة لا شبيه لها في العالم، يزدادون في معظم دول الخليج عن السكان الأصليين، ولا يسمح لهم بحقوق مدنية أو سياسية، وبالمقابل فليس في نيتهم ترك المنطقة، مما يعني تشوه التركيبة السكانية والهوية الثقافية لدولنا، وسنتحدث عن هذه الظواهر الثلاث في مقالات ثلاثة.

* نظام الكفيل:

* مع إطلالة عام 2011 تكون دولة الإمارات العربية المتحدة قد طبقت قرارا شجاعا اتخذه وزيرها معالي الأخ العزيز صقر بن غباش، يقضي بتخفيف القيود على حرية انتقال العمالة الأجنبية في الدولة. ويقضي القرار بإلغاء فترة الأشهر الستة المطلوبة الآن بين فقدان العامل الأجنبي لوظيفته مع صاحب عمله وتعاقده مع صاحب عمل آخر. كما يقضي أيضا بأن العامل الأجنبي حر في اختيار صاحب عمل آخر إذا أخل صاحب العمل بشرط من شروط العقد المبرم بين الطرفين، كأن يؤخر دفع أجوره، أو يفرض عليه التزامات غير متفق عليها. والقرار يخفف في الواقع من هيمنة «الكفيل» على عمالته الأجنبية، وإن لم ينهها بالكامل، لأنه يشترط مرور عامين من العلاقة بين الطرفين قبل أن يستفيد العامل من قرار الوزير غباش كاملا (أي تغيير الكفيل من دون موافقة الكفيل الأصلي).

ومع ذلك، ولأن معظم العقود في الإمارات مفتوحة، ولأن غالبية العمالة الأجنبية مضى على وجودها أكثر من عامين، فإن القرار الإماراتي يحرر نسبة كبيرة من سوق العمل.. يحررها من رقبة نظام الكفيل المعمول به في دول مجلس التعاون الخليجي، ودول عربية أخرى (مثل ليبيا والأردن)، وهو نظام لا يستند إلى أساس قانوني أو أخلاقي أو حتى تجاري.

وفي فبراير (شباط) القادم، تحذو دولة الكويت نفس الخطى بإعلان وزير الشؤون الاجتماعية والعمل معالي الفاضل الأخ الدكتور محمد العفاسي (عافاه الله) إلغاء نظام الكفيل في الكويت، وبشروط أيسر من تلك التي اعتمدت في الإمارات.

أما نحن في مملكة البحرين، فقد سبقنا الإخوة بإنهاء هيمنة الكفيل على العامل الأجنبي، وأصدرت قرارا في أبريل (نيسان) 2009 بحرية انتقال العمالة الأجنبية في البحرين من دون ضرورة موافقة «الكفيل»، وعدم قانونية الاحتفاظ بجواز سفر العمالة الأجنبية من قبل كفيلها. وكان هذا القرار تنفيذا للمادة 25 من قانون تنظيم سوق العمل رقم 19، الصادر في عام 2006 بعد أن أقره مجلسا الشورى والنواب في المملكة. لقد مر القانون بعدة مراحل من المشاورات استمرت أربع سنوات، شملت رجال الأعمال والنقابات العمالية ومؤسسات المجتمع المدني وأعضاء مجلسي الشورى والنواب والقانونيين.

ورغم المقاومة الشديدة التي واجهناها فإن غالبية رجال الأعمال كانت متفهمة لتلك الخطوة الحضارية، وكانت القيادة البحرينية مصممة على الالتزام بالمعايير الدولية في تعاملها مع العمالة الوافدة.

محاسن جمة:

والحقيقة أن محاسن حرية انتقال العمالة ليست في الالتزام بالمعايير الدولية من خلال احترام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فقط، بل تشمل أمورا كثيرا لصالح سوق العمل، يمكن أن نوجزها كما يلي:

1) حرية انتقال العمالة تؤدي لزيادة مستوى الرواتب وتطوير بيئة العمل، وهذا بلا شك ينعكس إيجابا على العلاقات العمالية والإنتاجية والقدرة التنافسية للشركات وللاقتصاد الوطني ككل. مستوى الإنتاجية هو التحدي الأكبر لأي اقتصاد، ولا يمكن زيادته في ظل علاقة عمل تشبه علاقة العبد بالسيد، بل بعلاقة صحية ذات مصالح مشتركة بين طرفي الإنتاج.

2) إن زيادة كلفة العامل الأجنبي هذه، وحريته في الانتقال كما العامل الوطني، سوف تجعل العامل الوطني خيارا مفضلا لدى أصحاب العمل. لقد كان العامل الأجنبي أكثر تفضيلا لأنه مرغم على العمل لدى كفيله - بعكس المواطن - ويتقاضى رواتب زهيدة وظروف عمل وسكن متدنية لا يقبل بها المواطن. وبهذا يسهم القرار بالإضافة لخطوات أخرى في مواجهة ظاهرة البطالة في أوساط المواطنين.

3) حرية انتقال العمالة تضرب ظاهرة العمالة السائبة والاتجار بالبشر في العمق. فرغم الحملات التي نقوم بها في دول الخليج العربي لاستئصال عملية الاستعباد والمتاجرة بالعمالة الوافدة، فإننا لم نكن نعالج إلا آثار المرض، الحمى والألم، أما جذور المشكلة فهي تكمن أساسا في هيمنة الكفيل على العامل الأجنبي وحجز جواز سفره والمتاجرة بجهوده وعرقه، وهو وضع غير مقبول شرعا ولا أخلاقا ولا حسب المعايير العالمية لاحترام حقوق الإنسان. وبزحزحة وزعزعة هيمنة الكفيل على العامل الأجنبي تصاب ما تسمى بظاهرة «فري فيزا» في مقتل.

أوهام المعارضين:

وقد بدأ تنفيذ القرار البحريني في 2 أغسطس (آب) 2009، وأذكر أن سمو ولي العهد الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، اتصل بي يوم السبت 1 أغسطس، وكنت خارج البحرين، وسألني عن الاستعدادات لتطبيق القرار في ضوء الضجة الكبرى التي أحدثتها مجموعة من صغار المقاولين، بما في ذلك التظاهر خارج مكاتب هيئة تنظيم سوق العمل، واتفقنا أنه الدرب السليم وستكون نتائجه خير إن شاء الله.

وبالفعل، فبعد مرور عام ونصف العام على تطبيق قانون حرية انتقال العمالة في البحرين، لم يأتنا منه إلا الخير، وسكتت الأصوات المعارضة لما تبين أنه خلال هذه الفترة ومن ضمن الآلاف من العمالة المحولة محليا، لم ينتقل سوى 2% فقط من العمال من دون موافقة الكفيل الأول، أي أن العامل وكفيله اتفقا على وقت وكيفية الانتقال فيما بينهما من دون إكراه، وبدأ السوق يتأقلم مع العلاقة الجديدة لصالح الجميع.

إنني متأكد من أن الدول الخليجية المتبقية، أي المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان ودولة قطر، ستحذو حذو البحرين والإمارات والكويت في التخفيف من قبضة «الكفيل» على العامل، وتسمح بمرونة أكثر للعلاقات بين الطرفين. وبالفعل فقد أعلن رئيس وزراء قطر ووزير خارجيتها معالي الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، أن حكومته تدرس الموضوع بجدية، وتدرس إمكانية إلغاء نظام الكفيل أو تخفيفه. وكان المرحوم أخونا الغالي وزميلنا الدكتور غازي القصيبي مؤمنا بهذه الخطوة، ويتحين الفرصة المناسبة لاتخاذها، لكن الموت اختطفه من بيننا، رحمه الله، والبركة في معالي الأخ عادل فقيه وزير العمل السعودي الجديد لإكمال المسيرة في سوق العمل إن شاء الله.

هذا عن موضوع الكفيل، أما الموضوعان الآخران، مسألة تفشي ظاهرة البطالة بين المواطنين وتغول حجم العمالة الوافدة، فلهما حديثان آخران نسأل الله أن يوفقنا لعرضهما عن قريب.

* وزير العمل

في مملكة البحرين